استمع[1] إليه وهو يخاطب معشوقه العظيم عند مسيره إلى جهاده في دعاء عرفة، الذي هو النشيد الخالد للعبوديّة المخلصة: «ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك»[2].
بهذه الروح الرائعة التي لا يدخل شيءٌ من أشياء هذا العالم المحدود في حسابها، ولا ترى بعد الظفر بالجانب الإلهي جانباً آخر يخشى فواته، أو يؤمل إدراكه؛ لأنّ المحدود ليس إلّا لمعة لذلك الوجود غير المحدود.
أقول: بهذه الروح المعنويّة الباهرة دخل إلى معركة كربلاء، مضحّياً بنفسه وبصفوة البنين والإخوة والأصحاب، وبجميع اعتبارات هذه الدنيا الفانية؛ لأنّ سكرة العشق الإلهي جعلته يرتفع عن ذلك كلّه، فلا يرى بعينَيْ عقله إلّا معشوقه العظيم، يتقبّل منه قرابين التضحية، ويبارك له فيها، فيزداد إطلاقةً وبِشراً كلّما ازدادت المعركة اتّساعاً وفارت دماً.
خاض الحسين تلك المعركة الهائلة مندفعاً بضمير إلهيٍّ يملأ ذات نفسه، وبيده مشعلُ الحياة والنور، ولكن شاء صانعو الموت للشعوب- الذين لا يمكن أن يقيموا عروشهم الجائرة إلّا في ظلام- أن يطفئوا ذلك المشعل، ويقضوا على ذلك النور.
وكانت تلك المعركة مظهراً دامياً للصراع الهائل الذي انبثق عن وضع نظام الدولة في جوهر الإسلام؛ وذلك أنّ الإسلام- بطبيعته المتوثّبة إلى الاتّصال والخلود، وبجوهره الذي جاء بالصيغة النهائيّة لرسالات السماء- لم يكن ليرضى إلّا أن يمتدّ بوجوده ما امتدّت هذه الإنسانيّة، مهذِّباً ومنظِّماً، ولهذا وَضَعَ في الصميم من دستوره نظامَ الدولة العادلة، فكان ذلك إكمالًا للدين وإتماماً للنعمة كما أعلنه القرآن العظيم عند احتفال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودنيا الإسلام يومَ الغدير بوضع نظام الدولة المخلصة[3].
[1] في الأصل:« اسمع».
[2] الإقبال بالأعمال الحسنة: 349.
[3] في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً( المائدة: 3).