بدرجةٍ كبيرةٍ جدّاً؛ لأنّه يريد أن يتمتّع بالدنيا إلى أقصى مدى يمكن أن يتمتّع به ملك. هو يريد أن ينكشف، ومن همّه وهدفه ذلك، لكنّه في نفس الوقت يريد أن لا تكون نتيجته نتيجة عثمان ونهاية عثمان.
كان يريد أن يتحصّن من هذه النتيجة؛ وذلك بأن يُميت للُامّة الإسلاميّة ضميرها وإرادتها وقابليّتها لمقابلة جور الظالمين، فوضع سياسته خلال عشرين عاماً[1] ليميت هذا الضمير، وليميت هذه الإرادة، ليميّع الامّة الإسلاميّة، ويجعل المسلمين ينصرفون عن همومهم الكبيرة إلى الهموم الصغيرة، عن الآلام الضخمة إلى آلام حياتهم البسيطة، ينصرفون عن الأهداف التي كانوا يحملونها لتحطيم جاهليّات العالم كلّها إلى الدوائر الضيّقة، جعلهم ينصرفون إلى عيشهم ومصالحهم الصغيرة، إلى الدريهمات التي كانوا يتقاضونها من بيت المال في رأس كلّ شهر.
هذا المسلم الذي كان يفكّر في تحطيم ظلم الظالمين في بلاد كسرى وقيصر[2] أصبح لا يفكّر إلّا في هذه الدريهمات الرخيصة، إلّا في هذه الحياة الضئيلة المبتذلة التي يمنّ بها عليه عمّال بني اميّة.
هل تصدّقون أنّ شيوخ القبائل في الكوفة أصبحوا جواسيس لمعاوية بنأبي سفيان بالرغم من أنّهم من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)؟! أصبحوا عملاء وجواسيس لمعاوية، يعطونه الأخبار المفصّلة عن أيّ تحرّكٍ وأيّ تحسّس
[1] وهي فترة ولاية معاوية على الشام إلى حين صلح الحسن( عليه السلام) عام 41 ه-؛ حيث كان معاوية قد تولّاها بعد هلاك أخيه يزيد سنة ثمان عشرة كما أشرنا في هامشٍ سابق من هذه المحاضرة.
[2] تقدّم منه( قدّس سرّه) هذا المعنى في المحاضرة الخامسة، تحت عنوان: الامّة الإسلاميّة حملت طاقةً حراريّةً ولم تحمل وعياً مستنيراً، استيلاء المسلمين على كنوز كسرى وقيصر، فراجع: الاكتفاء بما تضمّنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء 14: 4- 15؛ نهاية الأرب في فنون الأدب 291: 19؛ فتوح مصر وأخبارها 146: 1؛ تاريخ الامم والملوك( الطبري) 3: 520؛ المنتظم في تاريخ الامم والملوك 168: 4؛ الكامل في التاريخ 463: 2؛ البداية والنهاية 39: 7.