ولهذا اتّجهت الامويّة بعد انتصارها العسكري عام الأربعين[1] إلى أعظم سرقة يمكن أن يمارسها إنسان. وماذا أعظم من أن يخطّط الانحراف الحاكم يومئذٍ- وعلى رأسه معاوية- على أن يسرق من الامّة إرادتها وينتزع منها شخصيّتها وكبرياءها، ليحقّق بذلك نصره النهائي، ويضمن له البقاء والامتداد؛ لأنّ الاستسلام الحقيقي للُامّة ليس بإلقائها السلاح فترةً من الزمن أمام الغاصب المنحرف، بل بتنازلها عن إرادتها وشخصيّتها، وقد استطاع معاوية أن ينتزع قدراً كبيراً من هذا الاستسلام.
ولعلّ أقسى تعبيرٍ عمّا وصلت إليه الامّة من انهيار واستسلام حقيقي نتيجة هذه المؤامرة ما قاله الوافدون على الحسين (عليه السلام) من الكوفة: «إنّ قلوبهم- يعنون قلوب أهل الكوفة- معك وسيوفهم عليك»[2]؛ لأنّ من لا يملك إرادته تتحرّك يده باتجاه معاكس لقلبه.
فكان لا بدّ للإمام الحسين (عليه السلام) [في] تلك المرحلة الرهيبة أن يحمي الامّة وإرادتها من الانهيار الكامل الذي يحقّق لخصوم الإسلام نصرهم النهائي.
وإذا لم يكن متاحاً للإمام يوم عاشوراء- وهو في سبعين رجلًا من أصحابه- أن يحبط مؤامرة الامويّين على السلطة ويستردّ منهم الحكم الذي سرقوه، فقد اتيح له أن يحبط مؤامرة الامويّين على إرادة الامّة، ويمدّها بطاقة عظيمة تحصّنها ضدّ الذوبان والانهيار.
وكان الاسلوب الوحيد لذلك أن يقف الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه أمام الطغاة الذين سرقوا من الامّة إرادتها، ويتحدّاهم بكلّ صمود وثبات، وبيأسٍ كامل من
[1] إذا كان( قدّس سرّه) يقصد حرب صفّين- وهو مقصوده على الأغلب- فلعلّه قصد: الانتصار السياسي بمقاييس الأخلاقيّة غير الرساليّة.
[2] الأخبار الطوال: 245؛ مقاتل الطالبيّين: 111؛ دلائل الإمامة: 74؛ تاريخ الامم والملوك( الطبري) 386: 5. وقد تقدّم بعضُ التعليق في المحاضرة السابعة عشرة، فراجع.