غير هذه الاعتبارات الثلاثة.
وقد رأينا أنّ هذه الاعتبارات الثلاثة- بمجموعها ككلّ- تشير إلى تعيين الطريق الثاني، ولا يشير شيءٌ منها إلى تعيين الطريق الأوّل. فكان لا بدّ من اختيار الطريق الثاني بدلًا عن الطريق الأوّل مهما كان هذا الطريق قاسياً وصعباً، ومهما كان فيه أقسى ألوان التحدّي للنفس البشريّة الاعتياديّة التي لم تَعْتَد منطق الحقّ وسلوك الحقّ في كلّ سلوكها وتصوّراتها وأفكارها ومشاعرها،
إلّا أنّ هذا الشابَّ العظيم الذي كان يمثّل الدور الحقّ في كلّ آناته وخلجاته لم يتردّد لحظةً ولم يتأمّل لحظةً في أن يتحمّل كلَّ هذا الأذى وكلّ هذا الضيم في سبيل أن يحقّق أقصى درجةٍ ممكنةٍ من المكاسب للاعتبارات الثلاثة، أو أن يبعدها عن أقصى درجةٍ ممكنةٍ من الضرر.
وعلى هذا الأساس، تمّ نوعٌ من إيقاف العمل، جسّده ذلك الموقف المشؤوم في مسجد الكوفة؛ حينما دخل معاوية بن أبي سفيان إلى مسجد الإمام علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) وصعد إلى هذا المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين في حكم الإسلام، إلى هذا المنبر الذي كان يعلوه محمّد [ (صلّى الله عليه وآله)] بوجوده الثاني، وهو عليّ (عليه الصلاة والسلام).
صعد عليه معاوية بن أبي سفيان ليستهين بمُثُلِ هذا المنبر وكرامة هذا المنبر، وليطعن صريحاً ومكشوفاً من فوق هذا المنبر في الشخص الذي كان يعيش فوق هذا المنبر كلَّ هموم المسلمين وكلَّ آلام المسلمين، الذي كان يعيش من فوق هذا المنبر كلَّ قضيّةٍ من قضايا الرسالة، وكلَّ اعتبارٍ من اعتباراتها، هذا الشخص صعد إلى هذا المنبر ليقول للناس بكلّ وقاحة وجرأة وصراحة: