أيضاً، فكان من المفروض أن تعدّ هذه المعاملات من الإيقاعات، مع أ نّهم عدّوها من جملة العقود.
إلّاأنّ هذا الإشكال غير صحيح؛ وذلك: أمّا بالنسبة للمضاربة والمزارعة والمساقاة، فقد بيّنّا حقيقتها سابقاً؛ فإنّ حقيقتها عبارة عن تعيين ما يكون العمل مضموناً به.
وتوضيحه: إنّ عمل الغير للإنسان إذا كان باستدعاء منه فهو مضمون عليه باجرة المثل. فلو فرض أنّ زيداً قال لعمرو: «احمل متاعي هذا»؛ فإنّ العمل يكون مضموناً عليه باجرة المثل، فإذا أراد الخروج عن هذه القاعدة فلا بدّ له من أن يستأجر العامل، فإذا استأجره فسوف يكون عمله مملوكاً له، فلا تلزمه اجرة المثل، بل تلزمه الاجرة التي بها استأجر العامل، سواء كانت أقلّ من اجرة المثل أم أكثر.
إذن: فمع عدم اتّفاق العامل والمالك يكون العمل مضموناً على المالك باجرة المثل، وليس هذا الضمان مجعولًا معامليّاً بل هو ضمان الغرامة، وحيث إنّ الضمان إنّما شرّع هنا من أجل منفعة العامل، فيصحّ اتّفاقهما على تحديد ما به الضمان من دون إجارة، وذلك بأن يأمره المالك بالعمل ويبيّن له أ نّه مستعدّ لأن يضمن عمله بهذا المقدار من المال لا أكثر منه، فهذا صحيح ولا يكون معاملة، بل هو استدعاءٌ من العامل وتحديدٌ لما به الضمان، فبدلًا من أن تلزمه اجرة المثل عيّن له مقداراً من المال من دون إجارة ومعاملة، فيكون قد حدّد ضمانه.
ومن هنا قلنا: إنّ الجعالة ليست معاملة، بل هي استدعاء من المجعول له العامل وتحديد لما به الضمان، أي تعيين للمقدار الذي يستعدّ المالك ضمانه ولا يكون ضامناً بأكثر منه، وإنّما يعيّنه لكي لا تلازمه اجرة المثل بعد ذلك.
ونفس النكتة موجودة في المضاربة والمزارعة والمساقاة؛ فإنّ العامل لو عمل من دون تعيين ما به الضمان من قبل المالك فله اجرة المثل.