وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الإنسان بينما يقترب عادةً باستمرار نحو الحقيقة في مجال التجربة الطبيعيّة، قد يبتعد عنها كثيراً في مجال التجربة الاجتماعيّة.
وثالثاً: إنّ التفكير الذي تبلوره التجربة الطبيعيّة أكثر موضوعيّة ونزاهة من التفكير الذي يستمدّه الإنسان من التجربة الاجتماعيّة. وهذه النقطة من أهمّ النقاط الجوهريّة التي تمنع التجربة الاجتماعيّة من الارتفاع إلى مستوى التجربة الطبيعيّة والعلميّة.
ففي التجربة الطبيعيّة ترتبط في الغالب مصلحة الإنسان الذي يصنع تلك التجربة باكتشاف الحقيقة كاملة صريحة، وليس له على الأكثر أدنى مصلحة بتزوير الحقيقة أو طمس معالمها التي تتكشّف خلال التجربة، فإذا أراد مثلًا أن يجرّب درجة تأثّر جراثيم السلّ بمادّة كيماويّة معيّنة حين إلقائها في محيط تلك الجراثيم فسوف لا يهمّه إلّامعرفة درجة تأثّرها مهما كانت عالية أو منخفضة، ولن ينفعه في علاج السلّ أن يزوّر الحقيقة فيبالي في درجة تأثّرها أو يهوّن منها. وعلى هذا الأساس يتّجه تفكير المجرّب في العادة اتّجاهاً موضوعيّاً نزيهاً.
وأمّا في التجربة الاجتماعيّة، فلا تتوقّف مصلحة المجرّب دائماً على تجلية الحقيقة واكتشاف النظام الاجتماعي الأصلح لجموع الإنسانيّة، بل قد يكون من مصلحته الخاصّة أن يستر الحقيقة عن الأنظار. فالشخص الذي ترتكز مصالحه على نظام الرأسماليّة والاحتكار أو على النظام الربوي للمصارف مثلًا، سوف يكون من مصلحته جدّاً أن تجيء الحقيقة مؤكّدة لنظام الرأسماليّة والاحتكار والربا المصرفي بوصفه النظام الأصلح، حتّى تستمرّ منافعه التي يدرّها عليه ذلك النظام. فهو إذن ليس موضوعيّاً بطبيعته ما دام الدافع الذاتي يحثّه على اكتشاف