وهذا الاحتمال وإن كان أقرب من الاحتمال الأوّل، لكنّه أيضاً على خلاف الارتكاز الفقهائي والعقلائي؛ إذ لو حسبنا ما هو المركوز في الأذهان الفقهائيّة والعقلائيّة لرأينا أ نّه لا يمكن أن يفسّر على أساس هذا الاحتمال، وذلك:
أوّلًا: لا إشكال في أنّ المركوز في هذه الأذهان أنّ الجعالة ليست تمليكاً مجّانيّاً وهبةً مشروطة ومعلَّقة، ولهذا يسمّى الدرهم: «جُعلًا على العمل»، وهذا معناه أ نّه اخذ في معنى الجعالة التعويض بمعنىً من المعاني.
ثانياً: لا إشكال- بحسب النصّ والفتوى فقهائيّاً، وبحسب الارتكاز عقلائيّاً- في أ نّه إذا تبيّن بطلان الجعالة لسبب من الأسباب، يُرجع إلى اجرة المثل، كما صرّح بذلك الفقهاء[1]، ولا موجب لضمان اجرة المثل لو لم يكن هنا طعم المعاوضة، وإنّما كان مجرّد تمليك مجّاني تبيّن بطلانه، من دون أن يكون العامل قد أقدم على العمل بعنوان المعاوضة حتّى يقال: لو لم يسلّم له المسمّى ثبتت له قيمة المثل والبدل الواقعي بقواعد الضمان.
ثالثاً: من المصرّح به والمتسالم عليه فقهائيّاً- وهو على طبق الارتكاز العقلائي أيضاً- أ نّه إذا جعل جُعلين مختلفين؛ فقال أوّلًا: «لك عليّ درهم لو وجدت لي ضالّتي»، ثمّ قال [ثانياً]: «لك عليّ دينار لو وجدت لي ضالّتي»، كانت الجعالة الثانية ناسخةً للجعالة الاولى. وهذا معناه وجود نوعٍ من المنافاة والمعارضة بالارتكاز بين الجعالتين، فتكون الثانية ناسخةً للُاولى.
ولو كانت مجرّد هبةٍ مشروطة فأيّ منافاةٍ بين الهبتين؟! ولماذا لا تصحّ كلتاها
[1] وهذه قاعدة كلّيّة طبّقت على الجعل( المناهل: 613)، وراجع: مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 11: 154؛ كفاية الأحكام 2: 513؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 35: 193