وهكذا نعرف بصورة مباشرة من التجربة على كلّ فرد من المياه التي مارسناها، قضيّة جزئيّة تختصّ بذلك الفرد، وعند تجميع عدد كبير من هذه القضايا الجزئيّة، التي تدلّ عليها التجربة دلالة مباشرة، نصل إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة التعميم على أساس الاستقراء العلمي؛ فنعمّم مدلولات التجربة، وننتزع من تلك القضايا الجزئيّة قضيّة عامّة تقول: إنّ كلّ ماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة، دون فرق بين الأفراد التي جرّبناها من الماء وغيرها من المياه، التي لم تدخل في نطاق التجربة بعد.
وهذا التعميم في المرحلة الثانية لا يقوم على أساس يقيني في رأي المنطق التجريبي؛ لأنّ أساس المعرفة الوحيد هو التجربة، وهي لم تمارس إلّامع عدد محدود من أفراد الماء.
فالتعميم إذن- أو المعرفة العامّة- لا يعتمد إلّاعلى استقراء ناقص، وتجاوز عن الحدود التي شملها نطاق التجربة، وما دام يستبطن هذا التجاوز عن النطاق التجريبي حتماً فلا يمكن أن ترقى المعرفة العامّة إلى درجة اليقين بحال من الأحوال، بل تبقى احتماليّة، ويزداد الاحتمال وتكبر درجته كلّما ازدادت التجارب وشملت عدداً أكبر من أفراد الطبيعة، فإذا جرّبنا الماء في مئة حالة فوجدناه يغلي عند الحرارة، يصبح إيماننا بالقاعدة العامّة (وهي أنّ كلّ ماء يغلي عند درجة معيّنة من الحرارة) أقوى من إيماننا حين كانت تجاربنا لا تتجاوز عشر حالات مثلًا، ولكنّ إيماننا بالقاعدة على أيّ حال- ومهما ازدادت الحالات التي تشملها التجربة- لا يبلغ إلى مستوى اليقين، ما دام يستبطن ذلك التعميم بدون تجربة مباشرة تدلّ عليه.
وعلى هذا الأساس ينتهي المنطق التجريبي إلى أمرين:
أحدهما: أنّ المعرفة العامّة احتماليّة وليست يقينيّة.