من التجربة عبارة عن قوانين ثابتة على نحو الاحتمال لا على نحو الجزم. وإذا ضممنا إلى هذا الاعتقاد اعتقادهم بأنّ جميع المعارف البشريّة قائمة على أساس التجربة، خرجنا بنتيجة، وهي أنّ كلّ معارفنا عرضة للشكّ، حتّى المعارف الرياضيّة من قبيل أنّ «الواحد نصف الاثنين» الناتجة- عندهم- عن التجربة، فحتّى هذه عرضة للشكّ، شأنها في ذلك تماماً شأن القضيّة القائلة بأنّ «كلّ نار محرقة».
والحقيقة أنّ المجال لا يسع للدخول في هذا البحث بشكل مفصّل لبيان مختلف الاتّجاهات الموجودة لدى تيّارات المنطق التجريبي ومدى اعتراف كلٍّ منها بالشكّ واليقين، فإنّه بحثٌ مفصّل[1]؛ غير أ نّنا نكتفي بالإشارة إلى مسألة، وهي أ نّه من المحتمل- احتمالًا قويّاً- أن يكون عجز الفلاسفة التجريبيّين عن تفسير حصول العلم هو الذي يقف وراء إنكارهم له، فكأ نّهم إثر عجزهم عن ذلك اصيبوا ببلبلة في فكرهم، فأدّت بهم إلى إنكار أصل حصول العلم.
وهذا الإنكار يمكن تفسيره على أساس ما ذكرناه، وأنّ حالة الشكّ الحاصلة لديهم ناجمة عن انحراف في سير فكرهم، فإنّهم من ناحية أنكروا وجود معارف عقليّة أوّليّة، ومن ناحية اخرى أرجعوا جميع المعارف إلى التجربة، ومن ناحية ثالثة رأوا أنّ دائرة الكلّيّات أوسع من دائرة التجربة، فما كان منهم إلّاأن أنكروا من رأس حصول العلم.
إذن: مسألة الإنكار لديهم لم تعد مشكلة منطقيّة بقدر ما تعبّر عن مشكلة
[1] وقد تعرّض له الشهيد الصدر قدس سره لاحقاً في( الاسس المنطقيّة للاستقراء: 550 وما بعد) تحت عنوان:( قضايا الرياضة والمنطق)، وقد كانت له وقفة خاصّة مع أنصار المنطق الوضعي