الحدود، نضع كل حدٍّ أصغر تحت الحدّ الأكبر منه. وفي هذه القائمة لدينا نوعان من الثبوت بين الحدود:
أحدهما: هو ثبوت كلّ حدّ للحدّ الذي يليه مباشرةً، وهذا الثبوت أوّلي غير برهاني؛ لأنّه يثبت بواسطة حدّ أوسط يتوسّط بينهما، وإلّا لكان خلف كونهما متّصلين بلا واسطة كما هو الفرض.
والثبوت الآخر: هو ثبوت الحدّ للحدّ الذي يليه عبر الواسطة، وهذا الثبوت برهاني؛ لما قدّمناه من توسّط حدٍّ بينهما.
هذه هي تمام المعرفة البشريّة التي يبحث عنها المنطق العقلي.
ومن الواضح أنّ هذه المعرفة لا تتعدّى كونها تفصيلًا للمجملات وإبرازاً للمستبطنات؛ فإنّ الحدّ الأصغر مثلًا مشمولٌ للأكبر في عالم الواقع، غاية الأمر أ نّنا لم نلتفت إلى كونه كذلك حتّى وسّطنا الحدّ الأوسط، فكشف لنا عن ذلك، وفصّل لنا الإجمال وأزال عنّا الإبهام.
ولنأخذ مثالًا على ذلك القياس التالي: «العالم متغيّر، وكلّ متغيّر حادث، فالعالم حادث»: فالقانون الموجود في الكبرى «كلّ متغيّر حادث» هو في الواقع يشمل العالم؛ لأنّ العالم متغيّر، فيكون العالم بالتالي مشمولًا لقانون الحدوث المذكور. ومع أ نّنا نعلم أنّ العالم متغيّر، إلّاأ نّنا لم نلتفت إلى كونه حادثاً حتّى وسّطنا الحدّ الأوسط بين المقدّمة الاولى (الصغرى) وبين المقدّمة الثانية (الكبرى)، حيث وقع محمولًا في الاولى وموضوعاً في الثانية.
إذن: فالحدُّ الأوسط- وهو التغيّر- هو الذي جعلنا نعرف أنّ الحدّ الأكبر- وهو الحدوث- شاملٌ للعالم، ولكنّ هذه المعرفة كانت مستبطنة في معرفتنا الاولى وموجودةً فيها على نحو الإجمال، غاية الأمر أنّ المجمل قد تمّ تفصيله وتبيينه وتوضيحه.