وسوف يتولّى هذا الكتاب شرح هذه النقطة في القسم الثالث من البحث عندما نصل في دراستنا إلى نظريّتنا الخاصّة في تفسير الدليل الاستقرائي، ولهذا سوف أكتفي هنا بهذه الإشارة، كما أشرت إلى ذلك أيضاً خلال تقييم الموقف الأرسطي من الاستقراء.
النقطة الثانية: إنّا نتّفق مع الاتجاه المتقدّم في إيمانه بأنّ قضايا السببيّة تستنتج من الاستقراء نفسه، وهذا لا يعني أ نّا نرفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا، بل يعني أ نّا حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي لهذه القضايا يظلّ بالإمكان إثبات قضايا السببيّة في عالم الطبيعة عن طريق الاستقراء، فالدليل الاستقرائي في مفهومنا المنطقي قادر بمفرده- وبدون مصادرات قبليّة عن السببيّة- على إثبات تلك القضايا.
ولكنّ المشكلة التي تورّط فيها الاتجاه التجريبي بهذا الصدد، هي أ نّه اعتقد بأنّ التعميم الاستقرائي يرتكز على أساس قضايا السببيّة، وزعم في الوقت نفسه أنّ قضايا السببيّة نتاج استقرائي- أي تعبير عن تعميمات استقرائيّة سابقة- ومن الواضح أنّ قضايا السببيّة إذا كانت تعبّر عن تعميمات استقرائيّة فهذا يعني أنّ ذلك الاستقراء الذي أدّى إلى تلك التعميمات قد قام بدوره في إثبات التعميم دون الارتكاز على أساس قضايا السببيّة؛ لأنّ قضايا السببيّة ليست إلّانتيجة التعميم الذي برهن عليه ذلك الاستقراء، ومن الطبيعي أن نستخلص من ذلك أنّ بإمكان الدليل الاستقرائي بدون افتراض قضايا السببيّة كمصادرات قبليّة أن يبرهن على التعميم. وإذا أمكن هذا من الناحية المنطقيّة في الاستقراء الذي برهن على نفس قضايا السببيّة، يصبح ممكناً في كلّ استقراء، ويثبت أنّ الدليل الاستقرائي عموماً لا يرتكز في إثباته للتعميم على تصديق مسبق بقضايا السببيّة.