الأوسط بينهما، وهكذا حتّى نصل في تسلسل متصاعد إلى المقدّمات الأوّليّة التي يثبت فيها المحمول للموضوع بذاته، وبدون وسيط بينهما. وفي هذه المقدّمات لا يمكن أن نستخدم القياس في البرهنة على ثبوت المحمول للموضوع؛ لأنّ القياس يتطلّب وسيطاً بينهما ولا وسيط بين الموضوع والمحمول في هذه المقدّمات، فالطريق الوحيد الممكن افتراضه في رأي أرسطو للبرهنة على هذه المقدّمات هو الاستقراء الكامل.
قال أرسطو: «وينبغي أن تعلم: أنّ الاستقراء ينتج أبداً المقدّمة الاولى التي لا واسطة لها؛ لأنّ الأشياء التي لها واسطة، بالواسطة يكون قياسها. أمّا الأشياء التي لا واسطة لها، فإنّ بيانها يكون بالاستقراء، والاستقراء من جهة يعارض القياس؛ لأنّ القياس بالواسطة يبيّن وجود الطرف الأكبر في الأصغر، وأمّا بالاستقراء فيبيّن بالطرف الأصغر وجود الأكبر في الأوسط»[1].
[1] منطق أرسطو، التحليلات الاولى، المقالة الثانية، الفصل الثالث والعشرون.
وهذه التفرقة التي جاءت في هذا النصّ بين القياس والاستقراء تتضح من خلال المقارنة بين مثالين للقياس والاستقراء كما يتصوّرهما أرسطو:
فنحن في القياس نقول: إذا كان شيء ما إنساناً فهو يجوع، وإذا كان يجوع فهو يأكل، ونستنتج من ذلك أنّ أيّ شيء إذا كان إنساناً فهو يأكل. وبهذا نكون قد أثبتنا- بطريقة قياسيّة- للإنسان المفترض، صفة أ نّه يأكل، بتوسّط أن يجوع. والإنسان في هذا القياس هو الحدّ الأصغر، وصفة أ نّه يأكل هو الحدّ الأكبر، وصفة أ نّه يجوع هو الحدّ الأوسط. وهكذا ثبت الأكبر للأصغر عن طريق الحدّ الأوسط.
ونحن في الاستقراء الكامل نقول: زيد وخالد وبكر هم كلّ أفراد الإنسان، وزيد وخالد وبكر يأكلون، فنستنتج من ذلك بطريقة استقرائيّة، أنّ كلّ إنسان يأكل. وفي هذا الاستقراء-