تنشأ من الانطباعات التي نتلقّاها من العالم الخارجي، وإذا فحصنا انطباعاتنا عن العالم الخارجي لا نجد فيها انطباعاً عن العليّة بالمعنى الذي يشتمل على الضرورة وحتميّة الارتباط بين الحادثتين؛ لأنّنا مهما تلفّتنا حولنا متّجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجيّة، باحثين فيما نسمّيه من تلك الأشياء أسباباً، لا نجد- في أيّة حالة من الحالات- ما يكشف لنا عن رابطة ضروريّة بين السبب ومسبّبه، إنّنا لن نجد أبداً صفة تنطبع بها حواسّنا وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعلّته ربطاً يجعل ذلك المعلول نتيجة محتومةً لعلّته، إنّ كلّ ما نراه في العالم الخارجي هو أنّ النتيجة تتبع سببها فعلًا: فنرى- مثلًا- أنّ كرة البليارد المتحرّكة إذا ما صدمت كرةً اخرى كانت ساكنة فإنّ هذه الثانية تتحرّك كذلك، إنّ الذي ينطبع على حواسّنا الظاهرة هو: كرة اولى تتحرّك، وكرة ثانية تعقبها في الحركة[1].

وهكذا ينتهي (هيوم) إلى رفض التسليم بعلاقة العليّة كحقيقة موضوعيّة، إذ لا سبيل إلى إثباتها عقليّاً ولا تجريبيّاً، واتجه على هذا الأساس إلى تفسيرها على أساس ذاتي نفسي. فبدلًا عن أن تكون الضرورة علاقة قائمة بين أكل الخبز والشبع، يتصوّرها (هيوم) علاقة قائمة في الذهن بين فكرة أكل الخبز وفكرة الشبع على ما سوف نتحدّث عنه بعد لحظات.

وتأكيد (هيوم) على عدم وجود انطباع حسّي لدينا عن العليّة بمعنى الضرورة والحتميّة يثير مشكلتين:

الاولى: كيف إذن يمكن أن نتصوّر العليّة بمعنى الضرورة والحتميّة، إذا كان التصوّر- أيّ تصوّر بسيط بوصفه فكرة- لا بدّ أن يكون نسخةً لانطباع معيّن؟

 

[1] ديفد هيوم، للدكتور زكي نجيب محمود: 85- 86