بذلك تحويل الاستقراء إلى استنباط وسير من العامّ إلى الخاصّ، بل هو نمط آخر من الاستدلال لا يدخل في نطاق الاستنباط، وهذا الاستدلال يسير من الخاصّ إلى العامّ دون الاستعانة بأيّ مبادئ عقليّة قبليّة.
ونحن حين نتناول هذه القضيّة بالبحث في القسم المقبل من هذا الكتاب، سوف لن نستطيع أن نقدّم برهاناً على أنّ الإنسان السوي يعلم بعدد كبير من التعميمات على أساس الاستقراء، فنحن لا نملك حقّاً برهاناً يقنع الشخص بوجود هذا العلم إذا أنكره، وماذا عسانا نقول لمن ينكر علمه بأ نّه إذا أكل فسوف يشبع، وإذا قطع رقبة ابنه فسوف يموت، وإذا وضع كوباً من ماء على الموقد المشتعل فلن يحدث فيه الانجماد!؟
إنّ موقفنا من هذا الإنكار يشبه الموقف الذي يتّخذه أيّ إنسان تجاه الفيلسوف المثالي الذي ينكر وجود العالم وأيّ واقع موضوعي خارج نطاق تصوّراتنا، ويزعم أ نّه لا يعلم بشيء خارج نطاق هذه التصوّرات! فكما لا يمكننا أن نبرهن للفيلسوف المثالي على أ نّه يعلم بأنّ لزوجته وأولاده وداره واقعاً موضوعيّاً- وإن كنّا متأكّدين من أ نّه يعلم بذلك على أساس طبيعة تعامله مع هذه الأشياء- كذلك لا يمكننا أن نبرهن ضدّ شخص ينكر العلم بأ نّه إذا أكل فسوف يشبع، وإذا ذبح ابنه فسوف يموت، ويرى أنّ الاستقراء المديد في تأريخ البشريّة لا يكفي للعلم بذلك إذا لم يكن الإنسان مسرفاً في اعتقاده!
وما سوف نعني به في البحث المقبل، هو التمييز بين ثلاثة أنواع، وهي:
اليقين المنطقي، واليقين الموضوعي، واليقين الذاتي. وننتهي من دراسة هذه الأنواع الثلاثة إلى أنّ اليقين المنطقي يختصّ بالاستدلال الاستنباطي ولا يشمل الاستدلالات الاستقرائيّة، وأنّ اليقين الذاتي مسألة شخصيّة وليس له مقياس موضوعي، وأنّ اليقين الموضوعي هو اليقين الذي يمكن للاستدلال الاستقرائي