أحداث التأريخ المتعاقبة وتياراته الاجتماعية والفكرية والسياسية المختلفة. فمن الملاحظ بكلّ سهولة أنّ المجتمع الاوروبي الحديث- مثلًا- يختلف في محتواه الاجتماعي وظواهره المتنوّعة عن المجتمعات الاوروبية قبل عشرة قرون.
فيجب أن يكون لهذا الاختلاف الاجتماعي الشامل سببه، وأن نفسّر كلّ تغيّر في الوجود الاجتماعي في ضوء الأسباب الأصيلة التي تصنع هذا الوجود وتغيّره، كما يدرس العالم الطبيعي فيالحقل الفيزيائي كلّ ظاهرة طبيعية في ضوء أسبابها، ويفسّرها بعلّتها؛ لأنّ المجالات الكونية كلّها- الطبيعية والإنسانية- خاضعة لمبدأ العلّية. فما هو السبب إذن لكلّ التغييرات الاجتماعية التي تبدو على مسرح التأريخ؟
قد يجاب على هذا السؤال: بأنّ السبب هو الفكر أو الرأي السائد في المجتمع، فالمجتمع الاوروبي الحديث يختلف عن المجتمع الاوروبي القديم، تبعاً لنوعية الأفكار والآراء الاجتماعية العامة السائدة في كلٍّ من المجتمعين.
ولكن هل يمكن أن نقف عند هذا في تفسير التأريخ والمجتمع؟
إنّنا إذا تقدّمنا خطوة إلى الأمام في تحليلينا التأريخي نجد أنفسنا مرغمين على التساؤل: عمّا إذا كانت آراء البشر وأفكارهم خاضعة لمجرّد المصادفة.
ومن الطبيعي أن يكون الجواب على هذا السؤال- في ضوء مبدأ العلّية- سلبياً.
فليست آراء البشر وأفكارهم خاضعة للمصادفة، كما أ نّها ليست فطرية تولد مع الناس وتموت بموتهم، وإنّما هي آراء وأفكار مكتسبة تحدث وتتغيّر، وتخضع في نشوئها وتطوّرها لأسباب خاصّة، فلا يمكن إذن اعتبارها السبب النهائي للأحداث التأريخية والاجتماعية ما دامت هي بدورها أحداثاً خاضعة لأسباب وقوانين محدّدة، بل يجب أن نفتّش عن العوامل المؤثّرة في نشوء الآراء والأفكار وتطوّرها. فلماذا مثلًا ظهر القول بالحرية السياسية في العصر الحديث، ولم يوجد