إغراء المادة للإنسان المسلم وقابليتها لإثارته؛ الأمر الذي يتّجه بالإنسان في العالم الإسلامي- حين يتجرّد عن دوافع معنويةٍ للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثمارها- إلى موقفٍ سلبيّ تجاهها يتّخذ شكل الزهد تارةً والقناعة اخرى والكسل ثالثةً.
ولكن إنّما يمكن أن تؤدّي نظرة إنسان العالَم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض إلى موقفٍ من هذه المواقف السلبية إذا فصلت الأرض عن السماء. وأمّا إذا البست الأرض إطار السماء واعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقةٍ محرِّكةٍ وقوة دفعٍ نحو المساهمة بأكبر قدرٍ ممكنٍ في رفع مستوى الحياة.
وهذا بالضبط ما تصنعه الدولة الإسلامية، فإنّها لا تنتزع من الإنسان نظرته العميقة إلى السماء، وإنّما تُعطي له المعنى الصحيح للسماء، وتسبغ طابع الشرعية والواجب على العمل في الأرض بوصفه مظهراً من مظاهر خلافة الإنسان للَّهعلى الكون، وبهذا تجعل من هذه النظرة طاقة بناء، وفي نفس الوقت تحتفظ بها كضمانٍ لعدم تحوّل هذه الطاقة من طاقةِ بناءٍ إلى طاقة استغلال.
فالمسلمون الذين يمارسون إعمار الأرض- بوصفها جزءاً من السماء التي يتطلّعون اليها، ويساهمون في تنمية الثروة باعتبارهم خلفاءَ عليها- أبعد ما يكونون عن الزهد السلبي الذي يُقعِد بالإنسان عن دوره في الخلافة، وأقرب ما يكونون إلى الزهد الإيجابي الذي يجعل منهم سادةً للدنيا لا عبيداً لها، ويحصّنهم ضدّ التحوّل إلى طواغيت لاستغلال الآخرين: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ»[1].
[1] الحجّ: 41