الأعلى ما دام واضحاً لديه فهو يملك المقياس الموضوعيّ الذي يحكم على أساسه باستقامة المسيرة أو انحرافها.
وهذا كلّه يهيّئ الجوَّ النفسيَّ للاستجابة الكاملة لعملية البناء الكبير، وتعبئة كلّ فردٍ لطاقاته في هذا السبيل لا بوصفه آلةً تسير وفقاً للخطّة، بل بوصفه واعياً على الخطّة، مدرِكاً معالمها ومثلها الأعلى في واقع الحياة.
ج- نظافة التجربة وعدم ارتباطها بالمستعمِرين:
إنّ الامّة في العالم الإسلامي عانت من الاستعمار ألواناً من الغدر والمكر والالتفاف منذ وطأ الرجل الأبيض الغربي أرضنا الطاهرة بأسلحته وأفكاره ومناهجه، وبلورت لديها هذه المعاناة المريرة شعوراً نفسيّاً خاصّاً تعيشه تجاه الاستعمار يتّسم بالشكّ والاتّهام، ويخلق نوعاً من الانكماش لدى الامّة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي، وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدَّة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمِرين، وحسّاسيّةً شديدةً ضدّها، وهذه الحسّاسية تجعل تلك الأنظمة- حتّى لو كانت صالحةً ومستقلّةً عن الاستعمار من الناحية السياسية- غير قادرةٍ على تفجير طاقات الامّة وقيادتها في معركة البناء، فلا بدّ للُامّة إذن بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتّصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظامٍ اجتماعيّ ومعالم حضاريةٍ لا تمتّ الى بلاد المستعمِرين بنسب.
وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتّلات السياسية في العالم الإسلامي تفكّر في اتّخاذ القوميات المختلفة لشعوب العالم الإسلامي فلسفةً وقاعدةً للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي، وبذلت جهوداً كثيرةً في محاولةٍ لتثوير العرق القومي حرصاً منهم على تقديم شعاراتٍ ثوريةٍ منفصلةٍ عن الكيان الفكري للاستعمار انفصالًا كاملًا.