قال اللَّه تعالى: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»[1].
ونلاحظ من خلال هذا النصّ أنّ الناس كانوا امّةً واحدةً في مرحلةٍ تسودها الفطرة، ويوحّد بينها تصوّرات بدائية للحياة وهموم محدّدة وحاجات بسيطة، ثمّ نمت- من خلال الممارسة الاجتماعية للحياة- المواهب والقابليات، وبرزت الإمكانات المتفاوتة، واتّسعت آفاق النظر، وتنوّعت التطلّعات، وتعقّدت الحاجات، فنشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القويّ والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجةٍ إلى موازين تحدِّد الحقّ وتجسّد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس في إطارٍ سليم، وتصبّ كلّ تلك القابليات والإمكانات- التي نمّتها التجربة الاجتماعية- في محورٍ إيجابيّ يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار، بدلًا عن أن يكون مصدراً للتناقض وأساساً للصراع والاستغلال.
وفي هذه المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء، وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة، ووضع اللَّه تعالى للدولة اسسَها وقواعدها، كما لاحظنا في الآية الكريمة المتقدمة الذكر. وظلّ الأنبياء يواصلون بشكلٍ وآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولّى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة، كداود وسليمان وغيرهما، وقضى بعض الأنبياء كلّ حياته وهو يسعى في هذا السبيل، كما في حالة موسى عليه السلام، واستطاع خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله و سلم أن يتوِّج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف وأطهر دولةٍ في التأريخ شكّلت بحقٍّ منعطفا
[1] البقرة: 213