وهكذا شكّلت الفطرة في البداية أساساً لإقامة مجتمع التوحيد، وكان الإنسان- ممثَّلًا في الجماعة الإنسانية كلّها- يمارس خلافة اللَّه على الأرض وفقاً لذلك، وكان خطّ الشهادة قائماً إلى جانب خطّ الخلافة ممثَّلًا في الأنبياء، وكان دور الأنبياء في تلك المرحلة ممارسة مهمّة الشهيد الربّاني، مهمّة الهادي والموجِّه والرقيب، كما يفهم من النصِّ القرآني الثاني؛ إذ اعتبر بعثة الأنبياء الذين يحكمون بين الناس في فترةٍ تاليةٍ للمرحلة التي كان الناس فيها امّةً واحدةً. ففي هذه المرحلة إذن كانت الخلافة والحكم للجماعة البشرية نفسها، وكان خطّ الشهادة للإشراف والتوجيه والتدخّل إذا تطلّب الأمر.
وبعد أن مرّت على البشرية فترة من الزمن وهي تمارس خلافتها من خلال مجتمعٍ موحّدٍ تحقّقت نبوءة الملائكة، وبدأ الاستغلال والتناقض في المصالح والتنافس على السيطرة والتملّك، وظهر الفساد وسفك الدماء؛ وذلك لأنّ التجربة الاجتماعية نفسها وممارسة العمل على الأرض نمَّت خبرات الأفراد ووسّعت إمكاناتهم، فبرزت ألوان التفاوت بين مواهبهم وقابلياتهم، ونجم عن هذا التفاوت اختلاف مواقعهم على الساحة الاجتماعية، وأتاح ذلك فرص الاستغلال لمن حظي بالموقع الأقوى، وانقسم المجتمع بسبب ذلك إلى أقوياء وضعفاء ومتوسّطين، وبالتالي إلى مستغلِّين ومستضعَفين، وفقدت الجماعة البشرية بذلك وحدتها الفطرية، وصدق قول اللَّه تعالى في آية تحمّل الإنسان للأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض، إذ قال: «وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا»[1].
وعلى هذا الأساس لم يَعُد في المنطق الربّاني للأقوياء المستغلِّين موقع في
[1] الأحزاب: 72