تصوّرات جديدة على ضوء التصوّرات المستورَدة من الحسّ.
ويمكننا أن نوضِّح فشل النظرية الحسّية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصوّر البشري إلى الحسّ، على ضوء دراسة عدّة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلّة والمعلول، الجوهر والعرض، الإمكان والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصوّرات.
فنحن جميعاً نعلم أنّ الحسّ إنّما يقع على ذات العلّة وذات المعلول، فندرك ببصرنا سقوط القلم على الأرض إذا سُحِبت من تحته المنضدة التي وضع عليها، وندرك باللمس حرارة الماء حين يوضع على النار، وكذلك ندرك تمدّد الفلزّات في جوّ حار. ففي هذه الأمثلة نحسّ بظاهرتين متعاقبتين، ولا نحسّ بصلة خاصّة بينهما، هذه الصلة التي نسمّيها بالعلّية، ونعني بها: تأثير إحدى الظاهرتين في الاخرى، وحاجة الظاهرة الاخرى إليها لأجل أن توجد.
والمحاولات التي ترمي إلى تعميم الحسّ لنفس العلّية واعتبارها مبدأ حسّياً، تقوم على تجنّب العمق والدقّة في معرفة ميدان الحسّ وما يتّسع له من معاني وحدود. فمهما نادى الحسّيون بأنّ التجارب البشرية والعلوم التجريبية القائمة على الحسّ هي التي توضّح مبدأ العلّية، وتجعلنا نحسّ بصدور ظواهر مادّية معيّنة من ظواهر اخرى مماثلة، أقول: مهما نادوا بذلك فلن يحالفهم التوفيق ما دمنا نعلم أنّ التجربة العلمية لا يمكن أن تكشف بالحسّ إلّاالظواهر المتعاقبة، فنستطيع بوضع الماء على النار أن ندرك حرارة الماء وتضاعف هذه الحرارة، وأخيراً نحسّ بغليان الماء، وأمّا أنّ هذا الغليان منبثق عن بلوغ الحرارة درجة معيّنة، فهذا ما لا يوضّحه الجانب الحسّي من التجربة، وإذا كانت تجاربنا الحسّية قاصرة عن كشف مفهوم العلّية فكيف نشأ هذا المفهوم في الذهن البشري،