التأرجح بين التناقض والعلّية:
بالرغم من أنّ الماركسية اتّخذت من تناقضات الديالكتيك شعاراً لها في بحوثها التحليلية لكلّ مناحي الكون والحياة والتأريخ، لم تنج بصورة نهائية من التذبذب بين تناقضات الديالكتيك ومبدأ العلّية، فهي بوصفها ديالكتيكية تؤكّد أنّ النموّ والتطوّر ينشأ عن التناقضات الداخلية كما مرّ مشروحاً في البحوث السابقة، فالتناقض الداخلي هو الكفيل بأن يفسّر كلّ ظاهرة من الكون دون حاجة إلى سبب أعلى. ومن ناحية اخرى تعترف بعلاقة العلّة والمعلول، وتفسّر هذه الظاهرة أو تلك بأسباب خارجية، وليس بالتناقضات المخزونة في أعماقها.
ولنأخذ مثالًا لهذا التذبذب من تحليلها التأريخي، فهي بينما تصرّ على وجود تناقضات داخلية في صميم الظواهر الاجتماعية كفيلة بتطويرها ضمن حركة ديناميكية، تقرّر من ناحية اخرى أنّ الصرح الاجتماعي الهائل يقوم كلّه على قاعدة واحدة، وهي: قوى الانتاج، وأنّ الأوضاع الفكرية والسياسية وما إليها ليست إلّابنىً فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل وآخر لطريقة الانتاج التي قام البناء عليها، ومعنى هذا: أنّ العلاقة بين هذه البنى الفوقية وبين قوى الانتاج هي علاقة معلول بعلّة، فليس هناك تناقض داخلي وإنّما توجد علّية[1].
وكأنّ الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح بين التناقضات الداخلية ومبدأ العلّية، وحاولت أن توفّق بين الأمرين، فأعطت العلّة والمعلول مفهوماً ديالكتيكياً، ورفضت مفهومها الميكانيكي، وسمحت لنفسها على هذا الأساس أن
[1] لأجل التوضيح يراجع بحث المادّية التأريخية من كتاب( اقتصادنا) للمؤلّف.( المؤلّف قدس سره)