المادّة وعلم الوراثة:
ولندع ذلك إلى علم الوراثة الذي يأخذ بمجامع الفكر البشري ويطأطئ له الإنسان إعظاماً وإكباراً. فكم ندهش إذا عرفنا أنّ الميراث العضوي للفرد تضمّه كلّه المادّة النووية الحيّة لخلايا التناسل التي تُسمّى (الجرمبلازم)، وأنّ مردّ جميع الصفات الوراثية إلى أجزاء مجهرية بالغة الدقّة، وهي: الجينات التي تحتويها تلك المادّة الحية في دقّة وانتظام. وقد أوضح العلم أنّ هذه المادّة لم تشتقّ من خلايا جسمية، بل من (جرمبلازم) الوالدين، فالأجداد، وهكذا.
وفي ضوء ذلك انهار الوهم الدارويني الذي أقام (داروين) على أساسه نظرية التطوّر والارتقاء، القائلة: بأنّ التغيّرات والصفات التي يحصل عليها الحيوان أثناء الحياة بنتيجة الخبرة والممارسة، أو بالتفاعل مع المحيط، أو نوع من الغذاء، يمكن أن تنتقل بالوراثة إلى ذرّيته؛ إذ ثبت على أساس التمييز بين الخلايا الجسمية، والخلايا التناسلية، أنّ الصفات المكتسبة لا تورث.
وهكذا اضطرّ المناصرون لنظرية التطوّر والارتقاء إلى أن ينفضوا يدهم من جميع الاسس والتفصيلات الداروينية تقريباً، ويضعوا فرضية جديدة في ميدان التطوّر العضوي، وهي: فرضية نشوء الأنواع بواسطة الطفرات. ولا يملك العلماء اليوم رصيداً علمياً لهذه النظرية، إلّاملاحظة بعض مظاهر التغيّر الفجائي في عدّة من الحالات التي دعت إلى افتراض أنّ تنوّع الحيوان نشأ عن طفرات من هذا القبيل، بالرغم من أنّ الطفرات المشاهدة في الحيوانات لم تبلغ إلى حدّ تكوين التغيّرات الأساسية المنوّعة، وأنّ بعض التغيّرات الدفعية لم تورث.
ولسنا بصدد مناقشة نظرية من هذا القبيل، وإنّما نستهدف التلميح إلى نظام الوراثة الدقيق، والقوّة المدهشة في الجينات الدقيقة التي توجّه بها جميع خلايا