انتهاء عملية البناء والتعمير، وإن تركها العمّال، ولم يبقَ منهم بعد ذلك شخص على قيد الحياة. والسيّارة التي أنتجها مصنع خاصّ بفضل عمّاله الفنّيين، تمارس نشاطها، وقد تبقى محتفظة بجهازها الميكانيكي، وإن تهدّم ذلك المصنع، ومات اولئك العمّال. والمذكّرات التي سجّلها شخص بخطّه، تبقى بعده مئات السنين، تكشف للناس عن حياة ذلك الشخص وتأريخه. فهذه الظواهر تبرهن على أنّ المعلول يملك حرّيته بعد حدوثه، وتزول حاجته إلى علّته.
والواقع: أنّ عرض هذه الظواهر كأمثلة لتحرّر المعلول بعد حدوثه من علّته، نشأ من عدم التمييز بين العلّة وغيرها. فنحن إذا أدركنا العلّة الحقيقية لتلك الامور- من بناء الدار، وجهاز السيّارة، وكتابة المذكّرات- نتبيّن أنّ تلك الامور لم تستغنِ عن العلّة في لحظة من لحظات وجودها، وأنّ كلّ أثر طبيعي يعدم في الآن الذي يفقد فيه سببه. فما هو المعلول للعمّال المشتغلين ببناء العمارة، إنّما هو نفس عملية البناء، وهي عبارة عن عدّة من الحركات والتحريكات، يقوم بها العامل بقصد جمع موادّ البناء الخام من الآجر والحديد والخشب وما إليها … وهذه الحركات لا يمكن أن تستغني عن العمّال في وجودها، بل تنقطع حتماً في الوقت الذي يكفّ فيه العمّال عن العمل. وأمّا الوضع الذي حصل لموادّ البناء على أثر عملية التعمير، فهو في وجوده واستمراره معلول لخصائص تلك الموادّ، والقوى الطبيعية العامة التي تفرض على المادّة المحافظة على وضعها وموضعها. وكذلك الأمر في سائر الأمثلة الاخرى. وهكذا يتبخّر الوهم الآنف الذكر إذا أضفنا كلّ معلول إلى علّته، ولم نخطئ في نسبة الآثار إلى أسبابها.
[ب] المعارضة الميكانيكية:
وهي المعارضة التي أثارها الميكانيك الحديث على ضوء القوانين التي