المادّة والوجدان
إنّ موقفنا من الطبيعة، وهي زاخرة بدلائل القصد والغاية والتدبير، كموقف عامل يكتشف في حفرياته أجهزة دقيقة مكتنزة في الأرض، فإنّ هذا العامل سوف لا يشكّ في أنّ هناك يداً فنّانة ركّبت تلك الأجهزة بكلّ دقّة وعناية، تحقيقاً لأغراض معيّنة منها، وكلّما عرف العامل حقائق جديدة عن دقّة الصنع في تلك الأجهزة، وآيات الفن والإبداع فيها، ازداد إكباراً للفنّان الذي أنشأ تلك الأجهزة وتقديراً لنبوغه وعقله. فكذلك نقف- أيضاً- نفس هذا الموقف الذي توحي به طبيعة الإنسان ووجدانه من الطبيعة بصورة عامّة، مستوحين من أسرارها وآياتها عظمة المبدع الحكيم الذي أبدعها، وجلال العقل الذي انبثقت عنه.
فالطبيعة- إذن- صورة فنية رائعة، والعلوم الطبيعية هي الأدوات البشرية التي تكشف عن ألوان الإبداع في هذه الصورة، وترفع الستار عن أسرارها الفنّية وتموّن الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبّر الحكيم وعظمته وكماله. وهي كلّما ظفرت في شتّى ميادينها بنصر، أو كشفت عن سرّ، أمدّت الميتافيزيقية بقوّة جديدة، وأتحفت الإنسانية بدليل جديد على العظمة الخلّاقة المبدعة التي أبدعت تلك الصورة الخالدة ونظمتها بما يدعو إلى الدهشة والإعجاب والتقديس. وهكذا لا تدع الحقائق التي أعلنها العلم الحديث مجالًا للريب في مسألة الإله القادر الحكيم. فإذا كانت البراهين الفلسفية تملأ العقل يقيناً واعتقاداً، فإنّ المكتشفات العلمية الحديثة تملأ النفس ثقة وإيماناً بالعناية الإلهية، والتفسير الغيبي للُاصول الاولى للوجود.