وصرنا نتصوّره ونفكّر فيه؟
وقد كان (دافيد هيوم)- أحد رجال المبدأ الحسّي- أدقّ من غيره في تطبيق النظرية الحسّية، فقد عرف أنّ العلّية بمعناها الدقيق لا يمكن أن تُدرك بالحسّ، فأنكر مبدأ العلّية، وأرجعها إلى عادة تداعي المعاني قائلًا: إنّي أرى كرة البلياردو تتحرّك فتصادف كرة اخرى فتتحرّك هذه، وليس في حركة الاولى ما يظهرني على ضرورة تحرّك الثانية، والحسّ الباطني يدلّني على أنّ حركة الأعضاء في تعقّب أمر الإرادة، ولكنّي لا أدرك به إدراكاً مباشراً علاقة ضرورية بين الحركة والأمر.
ولكنّ الواقع: أنّ إنكار مبدأ العلّية لا يخفّف من المشكلة التي تواجه النظرية الحسّية شيئاً؛ فإنّ إنكار هذا المبدأ كحقيقة موضوعية يعني: أ نّنا لم نصدّق بالعلّية كقانون من قوانين الواقع الموضوعي، ولم نستطع أن نعرف ما إذا كانت الظواهر ترتبط بعلاقات ضرورية تجعل بعضها ينبثق عن بعض، ولكن مبدأ العلّية كفكرة تصديقية شيء، ومبدأ العلّية كفكرة تصوّرية شيء آخر، فهب أ نّا لم نصدّق بعلّية الأشياء المحسوسة بعضها لبعض، ولم نكوّن عن مبدأ العلّية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك: أ نّنا لا نتصوّر مبدأ العلّية أيضاً، وإذا كنّا لا نتصوّره فما الذي نفاه (دافيد هيوم)؟ وهل ينفي الإنسان شيئاً لا يتصوّره؟!
فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها هي: أ نّنا نتصوّر مفهوم العلّية سواء أصدّقنا بها أم لا، وليس تصوّر العلّية تصوّراً مركّباً من تصوّر الشيئين المتعاقبين، فنحن حين نتصوّر علّية درجة معيّنة من الحرارة للغليان لا نعني بهذه العلّية تركيباً اصطناعياً بين فكرتي الحرارة والغليان، بل فكرة ثالثة تقوم بينهما، فمن أين جاءت هذه الفكرة التي لم تُدرك بالحسّ إذا لم يكن للذهن خلّاقية