ونقد هذا البرهان بصورة كاملة يتطلّب منّا أن نشرح القاعدة التي قام على أساسها، ونعطي إيضاحاً عن حقيقة النفس وبساطتها، وهذا ما لا يتّسع له مجالنا الآن، ولكن يجب أن نشير:
أوّلًا- إلى أنّ هذا البرهان إذا أمكن قبوله فهو لا يقضي على نظرية الأفكار الفطرية تماماً؛ لأنّه إنّما يدلّل على عدم وجود كثرة من الإدراكات بالفطرة، ولا يبرهن على أنّ النفس لا تملك بفطرتها شيئاً محدوداً من التصوّرات يتّفق مع وحدتها وبساطتها، وتتولّد عنه عدّة اخرى من التصوّرات بصورة مستقلّة عن الحسّ.
ونوضّح ثانياً- أنّ النظرية العقلية إذا كانت تعني وجود أفكار فطرية بالفعل لدى النفس الإنسانية، أمكن للبرهان الذي قدّمناه أن يردّ عليها قائلًا: إنّ النفس بسيطة بالذات، فكيف ولّدت ذلك العدد الضخم من الأفكار الفطرية؟! بل لو كان العقليون يجنحون إلى الإيمان بذلك حقّاً لكفى وجداننا البشري في الردّ على نظريتهم؛ لأنّنا جميعاً نعلم أنّ الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة فكرة مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية.
«وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»[1].
ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية، ويتلخّص في اعتبار الأفكار الفطرية الموجودة في النفس بالقوّة، وتكتسب صفة الفعلية بتطوّر النفس وتكاملها الذهني. فليس التصوّر الفطري نابعاً من الحسّ، وإنّما يحتويه وجود النفس لا شعورياً، وبتكامل النفس يصبح إدراكاً شعورياً واضحاً، كما هو شأن
[1] النحل: 78