فيجب- إذن- لأجل رفض تلك النزعات حقّاً، أن تأخذ الماركسية (الحقيقة) بمفهومها الواقعي الذي ترتكز عليه الفلسفة الواقعية؛ حتّى يمكن اعتبارها فلسفة واقعية مؤمنة بالقيم الموضوعية للفكر حقّاً.
وإذا عرفنا المفهوم الواقعي الصحيح (للحقيقة)، حان لنا أن نتبيّن ما إذا كان من الممكن (للحقيقة) بهذا المفهوم الذي تقوم على أساسه الواقعية أن تتطوّر وتتغيّر بحركة صاعدة كما تعتقد الماركسية أو لا؟
إنّ (الحقيقة) لا يمكن أن تتطوّر وتنمو، وأن تكون محدودة في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها بحدود تلك المرحلة الخاصّة، بل لا تخرج الفكرة- كلّ فكرة- عن أحد أمرين: فهي إمّا حقيقة مطلقة وإمّا خطأ.
وأنا أعلم أنّ هذه الكلمات تثير اشمئزاز الماركسيين، وتجعلهم يقذفون الفكر الميتافيزيقي بما تعوّدوا إلصاقه به من تهم، فيقولون: إنّ الفكر الميتافيزيقي يجمد الطبيعة ويعتبرها حالة ثبات وسكون؛ لأنّه يعتقد بالحقائق المطلقة، ويأبى عن قبول مبدأ التطوّر والحركة فيها، وقد انهار مبدأ الحقائق المطلقة تماماً باستكشاف تطوّر الطبيعة وحركتها.
ولكنّ الواقع الذي يجب أن يفهمه قارئنا العزيز: أنّ الإيمان بالحقائق المطلقة ورفض التغيّر والحركة فيها، لا يعني مطلقاً تجميد الطبيعة، ولا ينفي تطوّر الواقع الموضوعي وتغيّره. ونحن في مفاهيمنا الفلسفية نعتقد بأنّ التطوّر قانون عام في عالم الطبيعة، وأنّ كينونته الخارجية في صيرورة مستمرّة، ونرفض في نفس الوقت كلّ توقيت للحقيقة وكلّ تغيّر فيها.
ولنفرض- لإيضاح ذلك- أنّ سبباً معيّناً جعل الحرارة تشتدّ في ماء خاصّ، فحرارة هذا الماء بالفعل في حركة مستمرّة وتطوّر تدريجي. ومعنى ذلك:
أنّ كلّ درجة من الحرارة يبلغها الماء فهي درجة موقّتة، وسوف يعبرها الماء