5- أنصار الشكّ الحديث:
ومردّ هذا الشكّ الحديث في الحقيقة إلى مذهب الشكّ القديم الذي اتّخذته المدرسة الشكّية الإغريقية، وبشّر له (بيرون) زاعماً عجز الإنسان عن إعطاء أيّ حكم على الأشياء. وقد نشأت الشكّية الحديثة في ظروف مشابهة للظروف التي اكتنفت تلك المدرسة القديمة وساعدت على إنشائها، فالشكّية الإغريقية جاءت كحلّ وسط للصراع الذي قام على أشدّه بين السفسطة والفلسفة. فقد كانت السفسطة قد ولدت قبل الشكّية بقرون، وتمرّدت على جميع الحقائق، وأنكرت القضايا العلمية والحسّية كافّة، وقام الفلاسفة في وجهها يظهرون تناقضاتها، ويكشفون عن انهيارها بين يدي النقد حتّى تضاءلت موجة الإنكار، فانبثقت عند ذلك فكرة الشكّ التي أعلنت عن (لاأدريّة) مطلقة، وحاولت تبرير ذلك بإظهار تناقضات الحواسّ وتضارب الأفكار الذي يسلب عنها صفة الوثوق العلمي، فكانت تخفيفاً للسفسطة، وكذلك الأمر في الشكّية الحديثة؛ فإنّ أصحابها حاولوا تقديمها كحلّ للتناقض القائم بين المثالية والواقعية، إن صحّ أن يعتبر الاستسلام إلى الشكّ حلًا لهذا التناقض، وكانت بسبب ذلك صورة مخفّفة عن المثالية.
ولم تعتمد الشكّية الحديثة على إظهار تناقضات الإحساس والإدراك فحسب، بل على تحليل المعرفة الذي يؤدّي إلى الشكّ في زعمها، فقد كان (دافيد هيوم) الذي بشّر بفلسفة الشكّ على أثر فلسفة (باركلي) يرى أنّ التأكّد من القيم الموضوعية للمعرفة البشرية أمر غير ميسور؛ لأنّ أداة المعرفة البشرية هي الذهن أو الفكر، ولا يمكن أن يحضر في الذهن سوى إدراكات، ومن الممتنع أن نتصوّر