وبعد ذلك نرى ديكارت يقيم صرح الوجود كلّه على نقطة واحدة، وهي:
أنّ الأفكار التي خلقها اللَّه في الإنسان تدلّ على حقائق موضوعية، فلو لم تكن مصيبة في ذلك لكان اللَّه خادعاً، والخداع مستحيل عليه.
وبسهولة يمكن أن نتبيّن الخلط بين المعرفة التأمّلية والمعرفة العملية في برهانه؛ فإنّ قضية (الخداع مستحيل) هي الترجمة غير الأمينة لقضية (الخداع قبيح)، وهذه القضية ليست قضية فلسفية، وإنّما هي فكرة عملية، فكيف شكّ (ديكارت) في كلّ شيء ولم يشكّ في هذه المعرفة العملية التي جعلها أساساً للمعرفة التأمّلية الفلسفية؟!!
أضف إلى ذلك أنّ تسلسل المعرفة في مذهب ديكارت ينطوي على دور واضح؛ فإنّه حين آمن بالمسألة الإلهية أقام إيمانه هذا على قضية يفترض صدقها سلفاً، وهي: أنّ الشيء لا يخرج من لا شيء، وهذه القضية تحتاج بدورها إلى إثبات المسألة الإلهية؛ لتكون مضمونة الصدق، فما لم يثبت أنّ الإنسان محكوم لقوّة حكيمة غير مخادعة، لا يجوز لديكارت أن يثق بهذه القضية، ويقضي على شكّه في سيطرة قوّة خدّاعة للفكر الإنساني.
وأخيراً فلسنا بحاجة لتوضيح خلط آخر صدر منه بين (فكرة اللَّه) و (الحقيقة الموضوعية التي تدلّ عليها) حين آمن باستحالة انبثاق هذه الفكرة عن الإنسان؛ لأنّها أكبر منه. والحال أ نّها لا تزيد على فكره، وإنّما يستحيل على الإنسان أن يخلق لهذه الفكرة حقيقتها الموضوعية.
وليس هدفنا بالفعل التوسّع في مناقشة (ديكارت)، وإنّما نعني عرض وجهة نظره في قيمة المعرفة الإنسانية التي تتلخّص في الإيمان بالقيمة القاطعة للمعارف العقلية الفطرية خاصّة.