للقضية معطيات حسّية ولو بصورة غير مباشرة؟
فإن كانت الوضعية تلغي كلّ قضية ما لم يكن مدلولها معطىً حسّياً وظرفاً واقعياً يخضع للتجربة فهي بذلك لا تسقط القضايا الفلسفية فحسب، بل تشجب- أيضاً- أكثر القضايا العلمية التي لا تعبّر عن معطىً حسّيٍّ، وإنّما تعبّر عن قانون مستنتج من المعطيات الحسّية كقانون الجاذبية، فنحن نحسّ بسقوط القلم عن الطاولة إلى الأرض ولا نحسّ بجاذبية الأرض، فسقوط القلم معطىً حسّيٌّ مرتبط بالمضمون العلمي لقانون الجاذبية، وليس للقانون عطاء حسّي مباشر.
وأمّا إذا اكتفت الوضعية بالمعطى الحسّي غير المباشر، فالقضايا الفلسفية لها معطيات حسّية غير مباشرة كعِدّة من القضايا العلمية تماماً، أي: توجد هناك معطيات حسّية وظروف واقعية ترتبط بالقضية الفلسفية، فإن صحّت كانت القضية صادقة وإلّا فهي كاذبة. خذ إليك- مثلًا- القضية الفلسفية القائلة: بوجود علّة اولى للعالم، فإنّ محتوى هذه القضية وإن لم يكن له عطاء حسّي مباشر، غير أنّ الفيلسوف يمكنه أن يصل إليه عن طريق المعطيات الحسّية التي لا يمكن تفسيرها عقلياً إلّاعن طريق العلّة الاولى، كما سنرى في بحوث مقبلة من هذا الكتاب.
وهناك شيء واحد يمكن أن تقوله الوضعية في هذا المجال، وهو: أنّ استنتاج المضمون الفكري للقضية الفلسفية من المعطيات الحسّية لا يقوم على أساس تجريبي، وإنّما يقوم على اسس عقلية، بمعنى: أنّ المعارف العقلية هي التي تحتّم تفسير المعطيات الحسّية بافتراض علّة اولى، لا أنّ التجربة تبرهن على استحالة وجود هذه المعطيات بدون العلّة الاولى، وما لم تبرهن التجربة على ذلك لا يمكن أن تعتبر تلك المعطيات عطاءً للقضية الفلسفية ولو بصورة غير مباشرة.
وهذا القول ليس إلّاتكراراً من جديد للمذهب التجريبي، وما دمنا قد عرفنا سابقاً أنّ استنتاج المفاهيم العلمية العامّة من المعطيات الحسّية مدين