يحلّ لغزاً جديداً للطبيعة في مجال تجريبي آخر.
ولسنا نعني بهذا أنّ التطبيق والتجربة العلمية ليس لهما دور مهمّ في المعرفة البشرية للطبيعة وقوانينها، فإنّ دورهما في ذلك لا شكّ فيه. وإنّما نريد أن نؤكّد على أنّ استبعاد كلّ معرفة منفصلة عن التجربة ورفض المعارف العقلية بصورة عامّة يكون سبباً لاستحالة تخطّي المرحلة الاولى من الإدراك، أي: مرحلة الحسّ والتجربة.
التجربة والكيان الفلسفي:
ولا يقف هذا التناقض المستقطب بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي عند حدود نظرية المعرفة فحسب، بل يمتدّ أثره الخطير إلى الكيان الفلسفي كلّه؛ لأنّ مصير الفلسفة بوصفها كياناً أصيلًا مستقلًاّ عن العلوم الطبيعية والتجريبية مرتبط إلى حدٍّ كبير بطريقة حلّ هذا التناقض بين المذهبين العقلي والتجريبي، فالبحث في المقياس العامّ للمعرفة البشرية والمبادئ الاولى لها هو الذي يقدّم للفلسفة مبرّرات وجودها، أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلّي عن وظيفتها للعلوم الطبيعية.
وقد واجه الكيان الفلسفي هذه المحنة أو هذا الامتحان منذ نشأت الطريقة التجريبية وغزت الحقول العلمية بكفاءة ونشاط، وإليكم قصّة ذلك:
كانت الفلسفة قبل أن يسود الاتجاه التجريبي وفي مطلع فجرها تستوعب تقريباً كلّ المعارف البشرية المنظّمة بشكل عام، فالرياضيات والطبيعيات تطرح على الصعيد الفلسفي كمسائل الميتافيزيقا تماماً، وتتحمّل الفلسفة بمعناها العام الشامل مسؤولية الكشف عن الحقائق العامّة في كلّ مجالات الكون والوجود، وكانت أداة المعرفة التي تستخدمها الفلسفة في تلك الحقول جميعاً هي القياس: