وقوانينه الواقعية، فنعرف من ذلك: أنّ الخطوة الاولى من المعرفة ليست كافية بمفردها لتكوين نظرية، أي: لنقل الإنسان بصورة طبيعية أو ديالكتيكية إلى الخطوة الثانية للمعرفة الحقيقية. فما هو الشيء الذي يجعلنا ننتقل من الخطوة الاولى إلى الخطوة الثانية؟
إنّ ذلك الشيء هو: معارفنا العقلية المستقلّة عن التجربة التي يرتكز على أساسها المذهب العقلي؛ فإنّ تلك المعارف هي التي تتيح لنا أن نعرض عدّة من النظريات والمفاهيم، ونلاحظ مدى انسجام الظواهر المنعكسة في تجاربنا وحواسّنا معها، فنستبعد كلّ مفهوم لا يتّفق مع تلك الظواهر حتّى نحصل على المفهوم الذي ينسجم مع الظواهر المحسوسة والتجريبية بحكم المعارف العقلية الأوّلية، فنضعه كنظرية تفسّر جوهر الشيء وقوانينه الحاكمة فيه.
وإذا استبعدنا من أوّل الأمر المعارف العقلية المستقلّة عن التجربة فسوف يتعذّر علينا نهائياً أن نتخطّى دور الإحساس إلى دور النظرية والاستنتاج، أو أن نتأكّد من صحّة النظرية والاستنتاج بالرجوع إلى التطبيق وتكرار التجربة.
ونخلص من ذلك إلى أنّ التفسير الوحيد للخطوة الثانية من المعرفة- الحكم والاستنتاج- هو ما ارتكز عليه المذهب العقلي من القول: بأنّ عدّة من قوانين العالم العامّة يعرفها الإنسان معرفة مستقلّة عن التجربة، كمبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلّية، ومبدأ التناسب بين العلّة والمعلول، وما إلى ذلك من مبادئ عامّة، وحين تقدّم له التجربة العلمية ظواهر الطبيعة وتعكسها في إحساسه، يطبّق عليها المبادئ العامّة، ويحدّد مفهومه العلمي عن واقع الشيء وجوهره على ضوء تلك المبادئ، بمعنى: أ نّه يستكشف ما وراء الظواهر التجريبية، ويتخطّى إلى حقائق أعمق بالمقدار الذي يتطلّبه تطبيق المبادئ العامّة ويكشف عنه، وتضاف هذه الحقائق الأعمق إلى معلوماته السابقة، ويكون بذلك أكثر ثروة حينما يحاول أن