العلوم الطبيعية فليست كذلك؛ لأنّ قضاياها تركيبية، أي: إنّ المحمول فيها يضيف إلى الموضوع علماً جديداً، أي: ينبئ بجديد على أساس التجربة، فإذا قلت: إنّ الماء يغلي تحت ضغط كذا عندما تصبح درجة حرارته مئة مثلًا، فإنّي افيد علماً؛ لأنّ كلمة (ماء) لا تتضمّن كلمة (حرارة وضغط وغليان)؛ ولأجل ذلك كانت القضية العلمية عرضة للخطأ والصواب.
ولكن من حقّنا أن نلاحظ على هذه المحاولة لتبرير الفرق بين الرياضيات والطبيعيات: أنّ اعتبار القضايا الرياضية تحليلية لا يفسّر الفرق على أساس المذهب التجريبي، فهب أنّ (2+ 2/ 4) تعبير آخر عن قولنا: أربعة هي أربعة، فإنّ هذا يعني: أنّ هذه القضية الرياضية تتوقّف على التسليم بمبدأ عدم التناقض، وإلّا فقد لا تكون الأربعة هي نفسها إذا كان التناقض ممكناً، وهذا المبدأ ليس في رأي المذهب التجريبي عقلياً ضرورياً؛ لأنّه ينكر كلّ معرفة قبلية، وإنّما هو مستمدّ من التجربة كالمبادئ التي تقوم على أساسها القضايا العلمية في الطبيعيات، وهكذا تبقى المشكلة دون حلّ إذ ما دامت الرياضيات والعلوم الطبيعية تتوقّف جميعاً على مبادئ تجريبية، فلماذا تمتاز قضايا الرياضيات على غيرها باليقين الضروري المطلق؟!
وبعد، فلسنا نقرّ بأنّ قضايا الرياضيات كلّها تحليلية وامتداد لمبدأ (أنّ أربعة هي أربعة)، وكيف تكون الحقيقة القائلة: إنّ القطر أقصر- دائماً- من المحيط قضية تحليلية؟! فهل كان القِصَر أو المحيط مندمجاً في معنى القطر؟! وهل هي تعبير آخر عن القول: بأنّ القطر هو قطر؟!
ونخلص من هذه الدراسة إلى أنّ المذهب العقلي هو وحده المذهب الذي يستطيع أن يحلّ مشكلة تعليل المعرفة، ويضع لها مقاييسها ومبادئها الأوّلية.