التجريبيون بعد ذلك أن ينكروا ذلك المقياس ليبطلوا علينا فلسفتنا، فهم ينسفون بذلك الاسس التي تقوم عليها العلوم الطبيعية، ولا تثمر بدونها التجارب الحسّية شيئاً.
وفي ضوء المذهب العقلي نستطيع أن نفسِّر صفة الضرورة واليقين المطلق التي تمتاز بها الرياضيات على قضايا العلم الطبيعي؛ فإنّ مردّ هذا الامتياز إلى أنّ القوانين والحقائق الرياضية الضرورية تستند إلى مبادئ العقل الاولى، ولا تتوقّف على مستكشفات التجربة، وعلى العكس من ذلك قضايا العلم؛ فإنّ تمدّد الحديد بالحرارة ليس من المعطيات المباشرة لتلك المبادئ، وإنّما يرتكز على معطيات التجربة، فالطابع العقلي الصارم هو سرّ الضرورة واليقين المطلق في تلك الحقائق الرياضية.
وأمّا إذا درسنا الفارق بين الرياضيات والطبيعيات في ضوء المذهب التجريبي فسوف لن نجد مبرّراً حاسماً لهذا الفرق ما دامت التجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة العلمية في كلا الميدانين.
وقد حاول بعض أنصار المذهب التجريبي[1] تفسير الفرق على أساسه المذهبي عن طريق القول: بأنّ قضايا الرياضيات تحليلية ليس من شأنها أن تأتي بجديد، فعندما نقول: (2+ 2/ 4)، لم نتحدّث بشيء جديد لنفحص درجة يقيننا به؛ فإنّ الأربعة هي نفسها تعبير آخر عن (2+ 2)، فالعملية الرياضية الآنفة الذكر في تعبير صريح ليست إلّاأنّ أربعة تساوي أربعة، وكلّ قضايا الرياضيات امتداد لهذا التحليل، ولكنّه امتداد يتفاوت في درجة تعقيده. وأمّا
[1] يراجع للتفصيل: الاسس المنطقيّة للاستقراء، مبحث: هل توجد معرفة عقليّة قبليّة؟ عند بيان موقف المنطق الوضعي من الفروق المطروحة بين الرياضيّات والطبيعيّات