ولكن بقي علينا أن ندرس من المذهب العقلي نقطة واحدة، وهي: أنّ المعلومات الأوّلية إذا كانت عقلية وضرورية، فكيف يمكن أن يُفسَّر عدم وجودها مع الإنسان منذ البداية، وحصوله عليها في مرحلة متأخّرة عن ولادته؟!
وبكلمة اخرى: أنّ تلك المعلومات إذا كانت ذاتية للإنسان فيجب أن توجد بوجوده، ويستحيل أن يخلو منها لحظة من حياته، وإذا لم تكن ذاتية لزم أن يوجد لها سبب خارجي لها وهو التجربة، وهذا ما لا يوافق عليه العقليون.
والواقع: أنّ العقليين حين يقرّرون أنّ تلك المبادئ ضرورية في العقل البشري يعنون بذلك: أنّ الذهن إذا تصوّر المعاني التي تربط بينها تلك المبادئ فهو يستنبط المبدأ الأوّلي دون حاجة إلى سبب خارجي.
ولنأخذ مبدأ عدم التناقض مثالًا، إنّ هذا المبدأ- الذي يعني: الحكم التصديقي بأنّ وجود الشيء وعدمه لا يجتمعان- ليس موجوداً عند الإنسان في لحظة وجوده الأوّلي؛ لأنّه يتوقّف على تصوّر الوجود، وتصوّر العدم، وتصوّر الاجتماع. وبدون تصوّر هذه الامور لا يمكن التصديق بأنّ الوجود والعدم لا يجتمعان؛ فإنّ تصديق الإنسان بشيء لم يتصوّره أمر غير معقول، وقد عرفنا عند محاولة تعليل التصوّرات الذهنية أ نّها ترجع جميعاً إلى الحسّ، وتنبثق عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فيجب أن يكتسب الإنسان مجموعة التصوّرات التي يتوقّف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق الحسّ؛ ليتاح له أن يحكم بهذا المبدأ ويصدّق به، فتأخّر ظهور هذا المبدأ في الذهن البشري لا يعني أ نّه ليس ضرورياً وليس منبثقاً عن صميم النفس الإنسانية بلا حاجة إلى سبب خارجي، بل هو ضروري ونابع عن النفس بصورة مستقلّة عن التجربة، ولكن التصوّرات الخاصّة شرائط وجوده وصدوره عن النفس، وإذا شئت فقس النفس