وجواز التناقض يؤدّي إلى انهيار جميع المعارف والعلوم، وعدم تمكّن التجربة من إزاحة الشكّ والتردّد في أيّ مجال من المجالات العلمية؛ لأنّ التجارب والأدلّة مهما تظافرت على صدق قضية علمية معيّنة كقضية (الذهب عنصر بسيط)، فلا يمكننا أن نجزم بأ نّها ليست كاذبة ما دام من الممكن أن تتناقض الأشياء وتصدق القضايا وتكذب في وقت معاً.
الرابع: أنّ مبدأ العلّية لا يمكن إثباته عن طريق المذهب التجريبي، فكما أنّ النظرية الحسّية كانت عاجزة عن إعطاء تعليل صحيح للعلّية كفكرة تصوّرية، كذلك المذهب التجريبي يعجز عن البرهنة عليها بصفتها مبدأ وفكرة تصديقية؛ فإنّ التجربة لا يمكنها أن توضّح لنا إلّاالتعاقب بين ظواهر معيّنة، فنعرف عن طريقها أنّ الماء يغلي إذا صار حارّاً بدرجة مئة، وأ نّه يتجمّد حين تنخفض درجة حرارته إلى الصفر، وأمّا سببية إحدى الظاهرتين للُاخرى والضرورة القائمة بينهما فهي ممّا لا تكشفها وسائل التجربة مهما كانت دقيقة ومهما كرّرنا استعمالها[1]. وإذا انهار مبدأ العلّية انهارت جميع العلوم الطبيعية كما ستعرف.
[1] وقد أكّد المؤلّف قدس سره في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» أنّ مبدأ العليّة وسائر قضايا السببيّة التي تتضمّن معنى الضرورة واستحالة الانفكاك وإن كانت لا تخضع لوسائل التجربة مهما كانت دقيقة، ولهذا يعجز المذهب التجريبي عن إثباتها، ولكن يمكن إثباتها بالاستقراء في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، وهذا لا يعني رفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا، بل يعني أ نّا حتّى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي بهذه القضايا يظلّ بالإمكان إثباتها في عالم الطبيعة عن طريق الاستقراء، وهذا ما أشار إليه في مناقشته للاتّجاه الأوّل من اتّجاهات المذهب التجريبي في الكتاب المذكور، كما أ نّه مشمول أيضاً لما أكّد عليه- في القسم الرابع من نفس الكتاب- من إمكان الاستدلال استقرائيّاً على جميع القضايا الأوّليّة والفطريّة عدا ما استثناه، فراجع.( لجنة التحقيق)