ولكن المسألة الفلسفية الاخرى التي تنبثق ممّا سبق، هي: أنّ الإدراكات والصور التي تتشكّل منها حياتنا العقلية إذا لم تكن صوراً قائمة بعضوٍ مادّي، فأين هي قائمة إذن؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة، وهي: أنّ تلك الصور والإدراكات تجتمع أو تتتابع كلّها على صعيد واحد، هو: صعيد الإنسانية المفكّرة، وليست هذه الإنسانية المفكّرة شيئاً من المادّة، كالدماغ أو المخّ، بل هي درجة من الوجود مجرّدة عن المادّة، يصلها الكائن الحيّ في تطوّره وتكامله. فالمدرِك والمفكّر هو هذه الإنسانية اللامادّية.
ولكي يتّضح الدليل على ذلك بكلّ جلاء يجب أن نعلم أ نّا بين ثلاثة فروض:
إحداها أنّ إدراكنا لهذه الحديقة أو لذلك النجم صورة مادّية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه، ودلّلنا على رفضه.
وثانيها أنّ إدراكاتنا ليست صوراً مادّية، بل هي صور مجرّدة عن المادّة، وموجودة بصورة مستقلّة عن وجودنا. وهذا افتراض غير معقول أيضاً؛ لأنّها إذا كانت موجودة بصورة مستقلّة عنّا، فما هي صلتنا بها؟! وكيف أصبحت إدراكات لنا؟!
وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، ولم يبقَ لدينا إلّاالتفسير الثالث للموقف، وهو: أنّ تلك الإدراكات والصور العقلية ليست مستقلّة في وجودها عن الإنسان، كما أ نّها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادّي، وإنّما هي ظواهر مجرّدة عن المادّة، تقوم بالجانب اللامادّي من الإنسان. فهذه الإنسانية اللامادّية (الروحية) هي التي تدرك وتفكّر، لا العضو المادّي، وإن كان العضو المادّي يهيّئ لها شروط الإدراك؛ للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادّي من الإنسان.