بالذات، غني بنفسه، وغير محتاج إلى سبب؛ لأنّ هذا هو ما يحتّمه تطبيق مبدأ العلّية على العالم بموجب قوانينها السالفة الذكر؛ فإنّ العلّية بعد أن كانت مبدأً ضرورياً للكون، وكان تسلسلها اللانهائي مستحيلًا، فيجب أن تطبّق على الكون تطبيقاً شاملًا متصاعداً حتّى يقف عند علّة اولى واجبة.
ولا بأس أن نشير في ختام هذا البحث إلى لون من التفكير المادّي في هذا المجال، تقدّم به بعض الكتّاب المعاصرين للردّ على فكرة السبب الأوّل أو العلّة الاولى، فهو يقول: إنّ السؤال عن العلّة الاولى لا معنى له، فالتفسير العلّي- أو السببي- يستلزم- دائماً- حدّين اثنين مرتبطاً أحدهما بالآخر، هما العلّة والمعلول، أو السبب والمسبّب، فعبارة (علّة اولى) فيها تناقض في الحدود؛ إذ أنّ كلمة: (علّة) تستلزم حدّين كما رأينا، لكن كلمة: (اولى) تستلزم حدّاً واحداً، فالعلّة لا يمكن أن تكون (اولى) وتكون (علّة) في نفس الوقت، فإمّا أن تكون اولى دون أن تكون علّة، أو بالعكس[1].
ولا أدري من قال له: إنّ كلمة: (علّة) تستلزم علّة قبلها. صحيح: أنّ التفسير السببي يستلزم- دائماً- حدّين هما: العلّة والمعلول، وصحيح: أنّ من التناقض أن نتصوّر علّة بدون معلول ناتج عنها؛ لأنّها ليست- عندئذٍ- علّة، وإنّما هي شيء عقيم، وكذلك من الخطأ أن نتصوّر معلولًا لا علّة له، فكلّ منها يتطلّب الآخر إلى جانبه، ولكن العلّة بوصفها علّة، لا تتطلّب علّة قبلها، وإنّما تتطلّب معلولًا، فالحدّان متوفّران معاً في فرضية (العلّة الاولى)؛ لأنّ العلّة الاولى لها معلولها الذي ينشأ منها، وللمعلول علّته الاولى؛ فكما لا يتطلّب المعلول دائماً معلولًا ينشأ منه- إذ قد تتولّد ظاهرة من سبب ولا يتولّد عن الظاهرة شيء جديد- كذلك العلّة لا تتطلّب علّة فوقها، وإنّما تتطلّب معلولًا لها.
[1] المسألة الفلسفيّة، الدكتور محمّد عبد الرحمن مرحبا: 80