ومن الضروري لإيضاح ذلك أن نعطي فكرة عن سير التطوّر العلمي، واسلوب التدرّج والتكامل في النظريات والحقائق العلمية؛ لنتبيّن مدى الفرق بين ديالكتيك الفكر المزعوم من ناحية، والتطوّر التأريخي للعلوم البشرية من ناحية اخرى.
إنّ الحقيقة العلمية تبدأ باسلوب نظري، كافتراض بحت، يخطر على ذهن العالم الطبيعي بسبب عدّة من المعلومات السابقة، والمشاهدات العلمية أو البسيطة. فالفرضية هي المرحلة الاولى التي تمرّ بها النظرية العلمية في سيرها التطوّري، ثمّ يشرع العالم في بحث علمي، ودراسة تجريبية لتلك الفرضية، فيقوم بمختلف ألوان الفحص عن طريق المشاهدات العلمية الدقيقة والتجارب المتنوّعة في الحقل الذي يخصّ الفرضية، فإذا جاءت نتائج المشاهدات أو التجربة مؤيِّدة للفرضية، ومنسجمة مع طبيعتها وطبيعة آثارها، اكتسبت الفرضية طابعاً جديداً، وهو طابع القانون العلمي، وتدخل النظرية بذلك المرحلة الثانية من سيرها العلمي.
ولكن هذا التطوّر الذي ينقل النظرية من درجة الفرضية إلى درجة القانون، ليس معناه: أنّ الحقيقة العلمية أخذت بالنموّ والحركة، وإنّما معناه: أنّ فكرة معيّنة كان مشكوكاً فيها، فبلغت درجة الوثوق أو اليقين العلمي. فنظرية (باستور) عن الكائنات الحيّة الميكروبية التي وضعها على أساس حدسي، ثمّ أيّدتها المشاهدات الدقيقة بالوسائل العلمية الحديثة، ونظرية الجاذبية العامّة التي أثار افتراضها في ذهن (نيوتن) مشهد بسيط، مشهد سقوط تفّاحة على الأرض، جعله يتساءل: لماذا لا تكون القوّة التي جعلت التفّاجة تسقط على الأرض، هي بعينها التي تحفظ للقمر توازنه، وترسم له حركته؟ ثمّ أيّدت التجارب أو المشاهدات العلمية بعد ذلك تعميم الجاذبية للأجرام السماوية، واعتبارها قانوناً عاماً قائما