وافتُرِض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعاً بالروح المادّية الطاغية لم يبنَ على فلسفة مادّية للحياة، وعلى دراسة مفصّلة لها.

فالحياة في الجوّ الاجتماعي لهذا النظام، فُصِلت عن كلّ علاقة خارجة عن حدود المادّة والمنفعة، ولكن لم يُهيَّأ لإقامة هذا النظام فهمٌ فلسفيٌّ كامل لعملية الفصل هذه. ولا أعني بذلك: أنّ العالم لم يكن فيه مدارس للفلسفة المادّية وأنصار لها، بل كان فيه إقبال على النزعة المادّية تأثُّراً بالعقلية التجريبية التي شاعت منذ بداية الانقلاب الصناعي‏[1]، وبروح الشكّ والتبلبل الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تُعَدُّ من أوضح الحقائق وأكثرها صحّة[2]، وبروح‏

 

[1] فإنّ التجربة اكتسبت أهمية كُبرى‏ في الميدان العلمي، ووفِّقت توفيقاً- لم يكن في الحسبان- إلى الكشف عن حقائق كثيرة، وإزاحة الستار عن أسرار مدهشة، أتاحت للإنسانية أن تستثمر تلك الأسرار والحقائق في حياتها العملية. وهذا التوفيق الذي حصلت عليه التجربة، أشاد لها قدسيّةً في العقليّة العامّة، وجعل الناس ينصرفون عن الأفكار العقليّة، وعن كلّ الحقائق التي لا تظهر في ميدان الحسّ والتجربة، حتّى صار الحسُّ التجريبي في عقيدة كثير من التجْرِيبيين الأساس الوحيد لجميع المعارف والعلوم. وسوف نوضِّح في هذا الكتاب: أنّ التجربة بنفسها تعتمد على الفكر العقلي، وأنّ الأساس الأوّل للعلوم والمعارف هو العقل الذي يدرك حقائق لا يقع عليها الحسّ، كما يدرك الحقائق المحسوسة.( المؤلّف قدس سره)

[2] فإنّ جملة من العقائد العامّة كانت في درجة عالية من الوضوح والبداهة في النظر العامّ، مع أ نّها لم تكن قائمةً على أساس من منطق عقلي، أو دليل فلسفي، كالإيمان بأنّ الأرض مركز العالم. فلمّا انهارت هذه العقائد في ظلّ التجارب الصحيحة، تزعزع الإيمان العامّ، وسيطرت موجة من الشكّ على كثير من الأذهان، فبُعِثت السفسطة اليونانية من جديد متأثّرة بروح الشكّ، كما تأثّرت في العهد اليوناني بروح الشكّ الذي تولَّد من تناقض المذاهب الفلسفية وشدّة الجدل بها.( المؤلّف قدس سره)