السؤال الثالث- إذا لم تكفِ التجربة العلمية بذاتها للبرهنة على المفهوم الإلهي والمادّي على السواء، فهل يمكن للفكر البشري أن يستدلّ على أحد المفهومين ما داما معاً خارجين عن النطاق التجريبي؟ أو إنّه يصبح مضطراً إلى الاستسلام للشكّ، وتجميد مسألة الإلهية والمادّية، والانصراف إلى المجال العلمي المثمر؟
والجواب: أنّ القدرة الفكرية للبشر كافية لدرس هذه المسألة، والانطلاق فيها من التجربة ذاتها، ولكن لا على أن تكون التجربة هي الدليل المباشر على المفهوم الذي نكوّنه عن العالم، بل تكون التجربة نقطة الابتداء، ويوضع المفهوم الفلسفي الصحيح للعالم- وهو المفهوم الإلهي- على ضوء تفسير التجربة والظواهر التجريبية، بالمعلومات العقلية المستقلّة.
ولا بدّ أنّ القارئ يتذكّر دراستنا- في نظرية المعرفة (المسألة الاولى)- للمذهب العقلي، وكيف أوضحنا بالبرهان وجود معارف عقلية مستقلّة، على شكل تبيّن أنّ إضافة معارف عقلية إلى التجربة أمر ضروري لا في مسألتنا الفلسفية فحسب، بل في جميع المسائل العلمية. فما من نظرية علمية ترتكز على أساس تجريبي بحت، وإنّما تقوم على أساس التجربة، وعلى ضوء المعلومات العقلية المستقلّة. فلا تختلف قضيّتنا الفلسفية التي تتناول البحث عمّا وراء عالم الطبيعة، عن كلّ قضية علمية تبحث عن أحد قوانين الطبيعة، أو تكشف شيئاً من قواها وأسرارها. فالتجربة في جميع ذلك نقطة الانطلاق، وهي مع ذلك بحاجة إلى تفسير عقلي لتستنتج منها الحقيقة الفلسفية أو العلمية[1].
[1] وقد أشرنا في بحث( نظريّة المعرفة) إلى أنّ السيّد المؤلّف قدس سره توصّل بعد تأليفه لهذا الكتاب إلى مذهب جديد للمعرفة في مقابل المذهب العقلي والتجريبي، وهو المذهب الذاتي للمعرفة، وفي ضوء هذا المذهب وإن كنّا بحاجة إلى ضمّ بعض المعارف العقليّة التي لا مناص عنها إلى التجربة، كالمعرفة العقليّة القائلة باستحالة اجتماع النقيضين، ولكن يمكن أن ينتقل الذهن- في ضوء المذهب المذكور- من استقراء الموضوعات الجزئيّة الخاضعة للتجربة إلى قواعد وقوانين عامّة، بحيث يكون السير الفكري فيها من الخاصّ إلى العامّ، ولا حاجة فيها إلى ضمّ المعارف العقليّة القبليّة التي تحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ، كما يدّعيه أصحاب المذهب العقلي للمعرفة.( لجنة التحقيق)