أحدهما أنّ المادّية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي الذي يميّزها عن الإلهية، كحاجة الميتافيزيقا إلى برهان على الإيجاب والإثبات.
والآخر أنّ المادّية اتّجاهٌ فلسفي كالإلهية، ولا توجد لدينا مادّية علمية، أي: تجريبية؛ لأنّ العلم- كما عرفنا- لا يُثبت المفهوم المادّي للعالم لتكون المادّية علمية، بل كلّ ما يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة، يترك مجالًا لافتراض سبب أعلى فوق المادّة. فالتجربة العلمية- مثلًا- لا يمكن أن تدلّ على أنّ المادّة ليست مخلوقة لسبب مجرّد، أو على أنّ أشكال الحركة وألوان التطوّر التي استكشفها العلم في شتّى جوانب الطبيعة، هي حركات وتطوّرات مكتفية ذاتياً، وليست منبثقة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها.
وهكذا كلّ حقيقة علمية. فالدليل على المادّية- إذن- لا يمكن أن يرتكز على الحقائق العلمية، أو التجارب بصورة مباشرة، وإنّما يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب، كالدليل على الإلهية تماماً.
ولنأخذ التطوّر لذلك مثلًا، فالعلم يُثبت وجود التطوّر الطبيعي في عدّة من المجالات، ويمكن أن يوضَع لهذا التطوّر تفسيران فلسفيان:
أحدهما أ نّه منبثق عن صميم الشيء، وناتج عن صراع يفترض فيه بين المتناقضات، وهذا هو تفسير المادّية الديالكتيكية.
والآخر أ نّه ناتج عن سبب أعلى مجرّد، فالطبيعة المتطوّرة لا تحوي في ذاتها المتناقضات، وإنّما تنطوي على إمكان التطوّر، وذلك السبب هو الذي يحقّق للإمكان الوجود الفعلي، وهذا هو تفسير الفلسفة الإلهية. فنحن نلاحظ بوضوح:
أنّ المفهوم العلمي إنّما هو وجود التطوّر الطبيعي، وأمّا هذان المفهومان عن الحركة فهما مفهومان فلسفيان، ولا يمكن أن يتأكّد من صحّة أحدهما، وخطأ الآخر بالتجربة المباشرة.