وبهذا تختلف مسائل الميتافيزيقا عن العلم الطبيعي في كثير من مجالاتها.
ونقول (في كثير من مجالاتها)؛ لأنّ استنتاج النظرية الفلسفية أو الميتافيزيقية من المبادئ الضرورية في بعض الأحايين يتوقّف على التجربة أيضاً[1]، فيكون للنظرية الفلسفية- حينئذٍ- نفس ما للنظريات العلمية من قيمة ودرجة.
الخطّ الثالث- عرفنا أنّ المعرفة التصديقية هي التي تكشف لنا عن موضوعية التصوّر، ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. وعرفنا- أيضاً- أنّ هذه المعرفة التصديقية مضمونة بمقدار ارتكازها على المبادئ الضرورية. والمسألة الجديدة هي مدى التطابق بين الصورة الذهنية- فيما إذا كانت دقيقة وصحيحة- والواقع الموضوعي الذي صدّقنا بوجوده من ورائها.
والجواب على هذه المسألة هو: أنّ الصورة الذهنية التي نكوّنها عن واقع موضوعي معيّن فيها ناحيتان: فهي من ناحية صورة الشيء ووجوده الخاصّ في ذهننا، ولا بدّ لأجل ذلك أن يكون الشيء متمثّلًا فيها، وإلّا لم تكن صورة له، ولكنّها من ناحية اخرى تختلف عن الواقع الموضوعي اختلافاً أساسياً؛ لأنّها لا تملك الخصائص التي يتمتّع بها الواقع الموضوعي لذلك الشيء، ولا تتوفّر فيها ما يوجد في ذلك الواقع من ألوان الفعّالية والنشاط. فالصورة الذهنية التي نكوِّنها عن المادّة أو الشمس أو الحرارة مهما كانت دقيقة ومفصّلة لا يمكن أن تقوم بنفس
[1] الظاهر أنّ هذا الكلام يعبّر عن الجذور الأوّليّة التي نمت وترعرعت في ذهن السيّد المؤلّف رحمه الله بعد تأليفه لهذا الكتاب حتّى انتهت إلى القول بإمكان تفسير الجزء الأكبر من معارفنا- بما فيها القضايا الميتافيزيقيّة- بالطريقة الاستقرائيّة المتّبعة في القضايا الطبيعيّة، وهي طريقة التوالد الذاتي التي يؤمن بها المذهب الذاتي للمعرفة. وقد وضّح ذلك بالتفصيل في القسم الرابع من كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء».( لجنة التحقيق)