السبب لحدّ الآن مجهول ومردّد بين طائفة من الأشياء، فكيف يتاح تعيينه من بينها؟
ويستعين العالم الطبيعي في هذه المرحلة بمبدأ من المبادئ الضرورية العقلية، وهو المبدأ القائل: (باستحالة انفصال الشيء عن سببه)، ويدرس على ضوء هذا المبدأ تلك الطائفة من الأشياء التي يوجد بينها السبب الحقيقي للحرارة، فيستبعد عدّة من الأشياء ويسقطها من الحساب، كدم الحيوان مثلًا، فهو لا يمكن أن يكون سبباً للحرارة؛ لأنّ هناك من الحيوانات ما دماؤها باردة، فلو كان هو السبب للحرارة لما أمكن أن تنفصل عنه ويكون بارداً في بعض الحيوانات.
ومن الواضح: أنّ استبعاد دم الحيوان عن السببية لم يكن إلّاتطبيقاً للمبدأ الآنف الذكر الحاكم بأنّ الشيء لا ينفصل عن سببه، وهكذا يدرس كلّ شيء ممّا كان يظنّه من أسباب الحرارة، فيبرهن على عدم كونه سبباً بحكم مبدأ عقلي ضروري. فإن أمكنه أن يستوعب بتجاربه العلمية جميع ما يحتمل أن يكون سبباً للحرارة، ويدلّل على عدم كونه سبباً- كما فعل في دم الحيوان-، فسوف يصل في نهاية التحليل العلمي إلى السبب الحقيقي- حتماً- بعد إسقاط الأشياء الاخرى من الحساب، وتصبح النتيجة العلمية- حينئذٍ- حقيقة قاطعة؛ لارتكازها بصورة كاملة على المبادئ العقلية الضرورية، وأمّا إذا بقي في نهاية الحساب شيئان أو أكثر ولم يستطع أن يعيّن السبب على ضوء المبادئ الضرورية، فسوف تكون النظرية العلمية في هذا المجال ظنّية[1].
[1] حاصل هذا الكلام أنّ التجربة التي ينتقل فيها الذهن من استقراء الموضوعات الجزئيّة إلى قواعد وقوانين عامّة لا يمكن أن تورث القطع بالنتيجة المطلوبة إلّاإذا ضُمّت إليها كبريات عقليّة قبليّة ممّا يحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ بدلًا عن السير الفكري من الخاصّ إلى العامّ وإلّا كانت النتيجة ظنّيّة، وهذا ما تغيّر فيه رأي السيّد المؤلّف قدس سره كما أشرنا سابقاً، حيث انتهى في كتابه« الاسس المنطقيّة للاستقراء» إلى إمكان حصول القطع بالنتيجة المطلوبة في القضيّة التجريبيّة في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة من دون حاجة إلى ضمّ الكبريات العقليّة القبليّة التي تحوّل السير الفكري فيها من العامّ إلى الخاصّ.( لجنة التحقيق)