كما سنرى.
وسوف لن ندخل في نقاش الآن مع هذه النظريات الثلاث: (السلوكية، واللّاشعورية، والمادّية التأريخية)؛ فإنّنا ناقشنا السلوكية ورصيدها العلمي المزعوم من تجارب (بافلوف) في دراستنا للإدراك- الجزء الخامس من القسم الثاني لهذا الكتاب- واستطعنا أن نبرهن على أنّ السلوكية لا تكفي تفسيراً مقبولًا للفكر، كما تناولنا في كتاب (اقتصادنا) المادّية التأريخية بالدرس والنقد الموسّع بوصفها الأساس العلمي للاقتصاد الماركسي، وانتهينا إلى نتائج تدين المادّية التأريخية في أرصدتها الفلسفية والعلمية، وتبرز ألوان التناقض بينها وبين اتّجاه الحركة التأريخية في واقع الحياة. وأمّا نظرية فرويد في التحليل النفسي، فلها موضعها من البحث في كتاب (مجتمعنا).
فنحن هنا- إذن- لسنا بصدد نقاش تلك النظريات في مجالاتها الخاصّة، وإنّما سوف نقتصر على الحديث عنها بالقدر الذي يتّصل بنظرية المعرفة.
ففي حدود العلاقة بين تلك النظريات ونظرية المعرفة نستطيع القول بأنّ البرهنة ضدّ المعرفة البشرية وقيمتها الموضوعية بنظرية علمية، تنطوي على تناقض وبالتالي على استحالة فاضحة؛ لأنّ النظرية العلمية التي تُقدَّم ضدّ المعرفة البشرية ولإزالة الثقة بها، سوف تَحكم على ذاتها أيضاً، وتنسف أساسها، وتسقط عن الاعتبار؛ لأنّها ليست إلّاإحدى تلك المعارف التي تحاربها وتشكّ أو تنكر قيمتها، ولذلك كان من المستحيل أن تتّخذ النظرية العلمية دليلًا على الشكّ الفلسفي ومبرِّراً لتجريد المعرفة من قيمتها.
فالنظرية السلوكية تصوّر الفكر باعتباره حالة مادّية تحدث في جسم المفكّر بأسباب مادّية كما تحدث حالة ضغط الدم فيه، ولأجل ذلك تنتهي بتجريده من قيمته الموضوعية، غير أنّ هذه النظرية ليست هي من وجهة نظر السلوكية نفسها إلّاحالة خاصّة حدثت في أجسام أصحاب النظرية أنفسهم، ولا تعبِّر عن شيء سوى ذلك.