التجريبي من تلك الأحكام العقلية، فهو الإحساسات المستوردة بالتجربة من الخارج، بعد صبّ الحسّ الصوري لها في قالبي الزمان والمكان. وأمّا الجانب العقلي فهو الرابطة الفطرية التي يسبغها العقل على المدرَكات الحسّية؛ ليتكوّن من ذلك علم ومعرفة عقلية. فالمعرفة- إذن- مزيج من الذاتية والموضوعية، فهي ذاتية في صورتها، وموضوعية في مادّتها؛ لأنّها نتيجة التوحيد بين المادّة التجريبية المستوردة من الخارج، وإحدى الصور العقلية الجاهزة فطرياً في العقل.
فنحن نعرف- مثلًا- أنّ الفلزات تتمدّد بالحرارة، وإذا أخذنا هذه المعرفة بشيء من التحليل نتبيّن أنّ موادّها الخام وهي: ظاهرة التمدّد في الفلزات، وظاهرة الحرارة، جاءت عن طريق التجربة، ولولاها لما استطعنا أن ندرك هذه الظواهر. وأمّا الناحية الصورية في المعرفة أي: سببية إحدى الظاهرتين للُاخرى فليست تجريبية، بل مردّها إلى مقولة العلّية التي هي من مقولات العقل الفطرية، فلو لم نكن نملك هذه الصورة القبلية لما تكوّنت معرفة. كما أ نّا لو لم نحصل على الموادّ بالتجربة لما تحقّقت لنا معرفة أيضاً.
فالمعرفة توجد بتكييف العقل للموضوعات التجريبية بإطاراته وقوالبه الخاصّة، أي: مقولاته الفطرية، لا أنّ العقل هو الذي يتكيّف وأنّ إطاراته وقوالبه هي التي تتبلور تبعاً للموضوعات المدرَكة. فالعقل في ذلك نظير شخص يحاول أن يضع كمية من الماء في إناء ضيّق لا يسعها، فيعمد إلى الماء فيقلّل من كمّيته؛ ليمكن وضعه فيه بدلًا عن أن يوسع الإناء ليستوعب الماء كلّه.
وهكذا يتّضح الانقلاب الفكري الذي أحدثه (كانت) في مسألة الفكر الإنساني؛ إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقاً لإطاراته الخاصّة، بدلًا عمّا كان يعتقده الناس: من أنّ الفكر يدور حول الأشياء ويتكيّف تبعاً لها.