وجود حقيقة موضوعية يحكي عنها إدراكك وشعورك.
وهكذا يتّضح: أنّ المعرفة التصديقية هي وحدها التي يمكن أن تردّ على حجّة (باركلي) القائلة: إنّا لا نتّصل بالواقع مباشرة، وإنّما نتّصل بأفكارنا، فلا وجود إلّالأفكارنا. فالنفس وإن كانت لا تتّصل مباشرة إلّابإدراكاتها، إلّاأنّ هناك لوناً من الإدراك يكشف بطبيعته كشفاً ذاتياً عن شيء خارج حدود الإدراك وهو: الحكم، أي: المعرفة التصديقية. فحجّة (باركلي) كانت تقوم على الخلط بين التصوّر والتصديق، وعدم إدراك الفوارق الأساسية بينهما.
وعلى هذا الضوء نتبيّن أنّ المذهب التجريبي والنظرية الحسّية يؤدّيان إلى النزعة المثالية، فهما مضطرّان إلى قبول الحجّة التي قدّمها (باركلي)؛ لأنّ النفس البشرية بمقتضى هذين المبدأين لا تملك إدراكاً ضرورياً أو فطرياً مطلقاً، وإنّما تنشأ إدراكاتها جميعاً من الحسّ وترتكز معارفها عليه، والحسّ ليس إلّالوناً من ألوان التصوّر، فمهما كثر وتنوّع لا يعدو حدوده التصوّرية، ولا يمكن أن يخطو به الإنسان إلى الموضوعية خطوة واحدة.
الدليل الثالث- أنّ الإدراكات والمعارف البشرية إذا كانت لها خاصّة الكشف الذاتي عن مجال وراء حدودها، وجب أن تكون جميع العلوم والمعارف صحيحة؛ لأنّها كاشفة بحكم طبيعتها وذاتها، والشيء لا يتخلّى عن وصفه الذاتي، مع أنّ جميع مفكّري البشرية يعترفون بأنّ كثيراً من المعلومات والأحكام التي لدى الناس هي إدراكات خاطئة ولا تكشف شيئاً من الواقع، بل قد يجمع العلماء على الاعتقاد بنظرية ما ويتجلّى بعد ذلك بكلّ وضوح أ نّها ليست صحيحة، فكيف يُفهَم هذا على ضوء ما تزعمه الفلسفة الواقعية: من أنّ العلم يتمتّع بالكشف الذاتي؟! وهل لهذه الفلسفة من مهرب إلّاالتنازل عن منح العلم هذه الصفة؟! وإذا تنازلت عن ذلك كانت المثالية أمراً محتماً؛ لأنّا لا نستطيع أن نصل- حينئذٍ-