لا يتاح لنا في حال من الأحوال أن نتّصل اتّصالًا مباشراً بالأشياء خارج روحنا، وما دمنا مضطرّين إلى إدراكها في تصوّراتنا وأفكارنا خاصّة … فلا وجود في الحقيقة إلّالهذه التصوّرات والأفكار، ولو أطحنا بها لم يبقَ شيء نستطيع أن ندركه، أو أن نعترف بوجوده.
ويجب أن نلاحظ قبل كلّ شيء أنّ هذه الحجّة التي حاول (باركلي) أن يبرهن بها على مفهومه المثالي ليست صحيحة حتّى عند (باركلي) نفسه؛ فإنّه يتّفق معنا- بصورة غير شعورية- على دحضها وعدم كفايتها لتبرير المفهوم المثالي؛ ذلك أ نّها تؤدّي إلى مثالية ذاتية تنكر وجود الأشخاص الآخرين كما تنكر وجود الطبيعة على السواء؛ فإنّ الحقيقة إذا كانت مقتصرة على نفس الإدراك والشعور باعتبار أ نّنا لا نتّصل بشيء وراء حدود الذهن ومحتوياته الشعورية، فهذا الإدراك والشعور هو إدراكي وشعوري أنا، وأنا لا أتّصل بإدراك الآخرين وشعورهم كما لا أتّصل بالطبيعة ذاتها، وهذا يفرض عليّ عزلة عن كلّ شيء عدا وجودي وذهني، فليس لي الحقّ بالتسليم بوجود الناس الآخرين؛ لأ نّهم ليسوا إلّاتصوّرات ذهني وفكري الذاتي.
وهكذا تنتهي المسألة إلى مثالية فردانية فظيعة، فهل كان يمكن ل (باركلي) أن يندفع مع حجّته إلى أقصى مداها ويخرج منها بمثالية كهذه؟! وإذا كان قد حاول شيئاً من هذا فسوف يتناقض مع نفسه قبل غيره، وإلّا فمع من كان يتحدّث؟! ولمن كان يكتب ويؤلّف؟! ولحساب من كان يلقي محاضراته ودروسه؟! أليس ذلك تأكيداً قاطعاً من (باركلي) على الواقع الموضوعي للأشخاص الآخرين؟!
وهكذا يتّضح أنّ (باركلي) نفسه يشاركنا في عدم قبول الحجّة التي تبنّاها والتصديق- ولو لاشعورياً- ببطلانها.