وقد ابتدأت المثالية دورها الأوّل في المصطلح الفلسفي على يد أفلاطون حين قال بنظرية خاصّة في العقل والعلم الإنساني، واسميت تلك النظرية بنظرية:
(المثل الأفلاطونية)، فقد كان أفلاطون فيلسوفاً مثالياً، ولكنّ مثاليته لم تكن تعني إنكار الحقائق المحسوسة، وتجريد الإدراكات الحسّية عن الحقائق الموضوعية المستقلّة عن مجال التصوّر والإدراك، بل كان يعتقد بموضوعية الإحساس، غير أ نّه ذهب إلى أكثر من ذلك، فاعتقد بموضوعية الإدراكات العقلية التي هي أعلى درجة من الإدراكات الحسّية مقرّراً أنّ الإدراك العقلي- وهو إدراك الأنواع العامّة كإدراك معاني الإنسان والماء والنور- ذو حقيقة موضوعية مستقلّة عن التعقّل، كما سبق إيضاحه في الجزء الأوّل من هذه المسألة[1].
وهكذا نعرف أنّ المثالية القديمة كانت لوناً من ألوان الإسراف في الإيمان بالواقع الموضوعي؛ لأنّها آمنت بالواقع الموضوعي للإحساس (إدراك المعاني الخاصّة بالحسّ) وللتعقّل (إدراك المعاني بصورة عامّة) ولم تكن إنكاراً للواقع أو شكّاً فيه.
واتّخذت المثالية في التأريخ الحديث مفهوماً آخر يختلف كلّ الاختلاف عن المفهوم السابق، فبينما كانت المثالية الأفلاطونية تؤكّد على وجود الحقيقة الموضوعية للإدراكات العقلية والحسّية معاً جاءت المثالية في لونها الحديث لتزعزع أساس الواقع الموضوعي، وتعلن عن مذهب جديد في نظرية المعرفة الإنسانية تلغي به قيمتها الفلسفية. والمفهوم المثالي الجديد هو الذي يعنينا درسه ومعالجته في بحثنا هذا.
وقد اختلفت على هذا المفهوم ألوان متعدّدة وصياغات كثيرة، وتوسّع
[1] تحت عنوان: نظريّة الاستذكار الأفلاطونيّة، في مبحث( التصوّر ومصدره الأساسي)