الدرجة كلّما اخذ بعين الاعتبار ما يكشفه العلم من الجوانب الذاتية لعملية الإدراك الحسّي. ولكن يبدو أنّ هناك درجة من التشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي لا يمكن التنازل عن الاعتقاد بها، ففيما نراه من أجسام بشكل دائري- مثلًا- لا نحتمل عادة أنّ الشكل الهندسي الواقعي لتلك الأجسام هو التربيع بدلًا عن الاستدارة، رغم أ نّا لا نملك أيّ مبرّر قبلي- أي قبل الحسّ والتجربة- للتأكيد على أنّ كلّ واقع موضوعي لا بدّ أن يثير صورة محسوسة لها نفس الخصائص الهندسية التي يتمتّع بها ذلك الواقع، إذ لا يوجد أيّ تناقض منطقي في افتراض أنّ المربّع يثير في إدراكنا الحسّي صورة لها شكل دائري.
فالاعتقاد باحتفاظ الصورة المحسوسة بالخصائص الهندسية للواقع الموضوعي المثير لها اعتقاد استقرائي، وهذا يعني أنّ القضية القائلة: «إنّ ما نراه مستديراً ليس مربّعاً في الواقع الخارجي، بل هو مستدير حقّاً أو قريب من الاستدارة» قضية استقرائية مستدلّة.
ويمكننا أن نأخذ هذه القضية كمثال لتوضيح الأساس الاستقرائي، وطريقة الاستدلال عليها استقرائياً:
إنّ افتراض أنّ الواقع الموضوعي للصورة المحسوسة المستديرة مربّع يعني أحد أمرين: إمّا أ نّا لا نرى جزءاً ممّا نواجهه، وإمّا أ نّا نرى شيئاً لا نواجهه. لأنّنا حينما نرى ورقة مستديرة، ونفترض أ نّها مربّعة في الواقع، فإن كان هذا المربّع هو المربّع الذي يمكن أن يرسم في داخل الدائرة التي نراها، فهذا يتضمّن أنّ الامتداد الذي تمثّله الصورة المحسوسة لنا أكبر من واقع الورقة. وإن كان هذا المربّع أكبر من المربّعات التي يمكن أن ترسم داخل الدائرة التي نراها- كما إذا كانت الورقة بحجم المربّع الذي يمكن أن ترسم تلك الدائرة داخله- فهذا يتضمّن أنّ جزءاً من امتداد المربّع لا نراه.